الجنون بحسب ميشيل فوكو

ثقافة 2023/01/24
...

 عادل الصويري

مثل الجنون عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو فكرة محوريَّة عبر الأدوار التي يمكن أن تلعبها الفلسفة في التاريخ البشري بوصفها أداة فاعلة في دراسة العلوم الإنسانيَّة والواقع الاجتماعي. وكان يحاول تفكيك الاتجاهات السائدة في التنظير للجنون كفكرة مرت بمراحل متعددة انتقلت من زمنها الكلاسيكي في القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، حين كانت الرؤية للجنون تتم عبر معيار العقل، وفي هذه الفترة الزمنيَّة كان الفهم السائد يعد الأحمق مجنوناً.

وقد أورد نماذج لبعض المحتجزين لسبب أسماه بـ «الخلل الذهني» إذ رأى أن أسباب احتجازهم غريبة، فليس من المنطقي أن يُسجن الشخص ويُعدُّ مجنوناً لأنَّه كثير الشغب، أو لأنَّه يغني في الليل والنهار، أو لأنَّه كذاب، أو قلق وحزين، فأراد فوكو أن يتم الحديث عن الشيء عبر نقيضه. 

لم يقتنع فوكو بركيزة العقل كخلاصة نهائيَّة لعمل الحداثة، إذ إنّه قدم ما يعرف بـ «الحداثة المضادة» حين قرر أن العقلَ والجنونَ توأمان، وأنَّ الجنونَ سيتهذَّب يوماً ما، «سيُغَيِّرُ من سِلميته، وسيولدُ في قلبِ الإنسانِ ويُنظم سلوكه ويعمل على خلخلته، سيمتدُّ بسلطانه إلى المدن ذاتها. فالحقيقةُ تُهدِّئُ الأشياء، أما الطبيعةُ فتتجاهلُه. وسيختفي سريعاً عندما يظهر ما هو أساس للكون: حياة وموت، عدالة حقيقيَّة. وقد يكون كل الناس خاضعين له، إلا أن سلطته ستكون دائماً تافهة ونسبيَّة؛ لأنّها ستكشف عن نفسها داخل حقيقته الرديئة في أعين الحكيم. فالمجنون عند الحكيم سيصبح موضوعاً، وسيكون كذلك في أردأ صورةٍ؛ لأنّها ستصبحُ موضوعاً لضحكه، واستناداً إلى هذا، فإنّه سيكون أسيرَ أمجاده. فالجنون وإن كان أحكم العلوم، سينحني أمام الحكمة التي سيظل في نظرها جنوناً. قد يكون للجنون الكلمة الأخيرة، ولكنّه لن يكون أبداً آخر كلمةٍ في الحقيقة والعالم»

 رأى بعض النقاد أنَّ فوكو اكتشف مفهوم الصمت في فكرة الجنون، ووصل إلى قناعة أن المجنون هو شخص صاحب رؤية مغايرة عن هذا العالم ليس بمقدوره التعبير عنها بشكل مفهوم. كما وجد أن محاكمة الآخر وفق المعايير الشخصية، أمر غير صائب، ولا عدالة فيه. لذلك من الأفضل بحسب فوكو تحليل خطاب المجنون الذي ليس بالضرورة أن يكون نصّاً وفق نظرة أن كل شيء داخل النص؛ لذلك جاء مفهوم فوكو للخطاب ليس من منظار الصحيح وغير الصحيح، أو العقلي واللاعقلي. قبل ذلك كان الخطاب مجرد تعكس الواقع كيفما هو، لكن الموضوع اختلف مع فوكو، إذ أصبح الخطاب يمارس التفكير والتحليل، وقدرة لغته على صناعة المفاهيم، وإنشاء علاقات بما حولها.

وقد رأى الناقد التونسي محمد المزوغي أن فوكو في (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) استفزّ حساسية الفلاسفة ليس فقط من جهة التحديات الفكريَّة، بل من جهة أسلوبه المثير ذي الطابع الأدبي. وإن نفاد الطاقة الحيوية للفلسفة الوجودية ووقوفها بين خياري: التحول إلى التحليل أو الذهاب إلى نمط جديد هو ما جعل أجيال الفكر الجديد تتجه إلى الخيار الثاني، بدل أن يجعلوا الفلسفة أكثر تعقيداً على صعيد الكلام، راحوا يدمجونها بالعلوم الإنسانيَّة كاللسانيات والتحليل النفسي والدراسات التاريخيَّة والأدبيَّة. وأن فوكو ينتمي لهذا الجيل المتألق من الفلاسفة الأدباء حين توجه إلى التاريخ وخاض في حقول لم تسبر حضارة الغرب أغوارها.

انحاز ميشيل فوكو إلى تلك الصرخات المكبوتة التي قسا عليها الزمن الكلاسيكي لا لشيء؛ إلا لكون أصحابها من الضعفاء المغلوبين على أمرهم، والذين انتهى بهم الأمر منبوذين بقرار سلطات القضاء والكنيسة.

أراد فوكو أن يجعلنا نتعاطف مع (هيثكليف) بطل رواية (مرتفعات وذرنج) الذي ظل يشتم حبيبته (كاثرين)، وبعد صراخه الذي قاده للجنون يتمنى أن يُدفن إلى جانبها. ونتعاطف كذلك مع السيدة (ماكبث) في مسرحية شكسبير.

وبالوقت نفسه أراد عبر نصوصه التي تناولت الجنون، واتخذت شكلاً أدبياً أنيقاً أن يقدم الفلسفة بشكل أكثر إنسانيّةً وجمالاً، بحيث يتحدث عن القوة والسلطة التي سبق لنيتشه أن تحدث بها، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن فوكو كان مهتماً بنيتشه. كان يريد تحويل السلطة إلى سلطة معرفيّة، وأن يؤصل للاختلاف ومغايرة النمطيّة في اقتحام المسكوت عنه، والحفر في جذور القضايا المتعلقة بالإنسانيَّة، والتنقيب الأخلاقي فيها، بما في ذلك التنقيب عن أصول فكرة الجنون، وتشجيع الدخول إلى أعماق صمت المجانين بدلاً من إركابهم (سفينة الحمقى).