وثائق وحقائق… الدولة العراقية والمشروع الأميركي

ثقافة 2023/01/25
...

رعد كريم عزيز

خمسة عقود ووثائق مختارة من العلاقة الشائكة بين العراق وأميركا، هذا المبحث المهم لمعرفة أسباب عدم تشكل دعائم الدولة العراقية، هو ما اختاره الكاتب قيس قاسم العجرش لكتابه الجديد المعنون (وثائق وحقائق الدولة العراقية والمشروع الأميركي ) مع عنوان مكمل (مجموعة مختارة من الوثائق لخمسة عقود من العلاقة الشائكة) عن دار الحكمة لندن, وأقدم قاسم العجرش عبر تتبع الوثائق بروح وثابة لمعرفة الحقائق , وهو ينتقل هنا من الترجمة البحتة في سلسلة من المباحث السياسية التاريخية المعاصرة, إلى حقل التأليف بحوار مفترض في مواجهة الوثائق التي هي عبارة عن وثائق تم إطلاقها ممثلة بالكتب الرسمية والمحادثات الهاتفية، وهو معني هنا بمعرفة الحاضر لاسيما منذ ستينيات القرن الماضي بعد الانقلابات العسكرية المتتالية في عام 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ثم انقلاب عام 1963 وهي المهاد الأول لتشكل عصابة زعيمها الأوحد صدام حسين التكريتي .

وما يهمنا هنا ليس عرض الكتاب بتفاصيله لأن الأمر صعب جدا, وسنكون مثل من يحاول أن يشرح فيلما وثائقيا بحلقاته الكثيرة، في قصة واحدة قصيرة الوقت وقليلة الكلمات، ولكن جل اهتمامنا يصب في طريقة المؤلف بالتعليق على الوثائق (الوثائق الأميركية السابقة التي رفعت عنها السرية قبل سنوات قليلة، هي البوابة الصحيحة لفهم وقائع الحاضر، وليس فقط مواقف الماضي) ص 13. إن المؤلف هنا يركز على أهمية فهم الحاضر من خلال الوثيقة، مؤكدا أهمية رؤية الوقائع كما جرت في حينها وكيف تم توثيق الأمر، لكي يبعد عن كتابه شبهة التحليل عن بعد، أو بوسائل التحليل والتخمين وفق معطيات شخصية 

فقط .

وهذا لا يعني الوثوق بما نشر وكأنه الحقيقة الوحيدة، ففي الفصل الأول وتحت عنوان وثائق أميركية قديمة وفي العنوان الفرعي (تماس مبكر مع صدام ) حيث يقول: (ويتضح جليا من هذه التقارير الاستخبارية أن منشأها لا يعتمد على مصادر داخلية رصينة، مثلما تغيب التقديرات عن شكل وآلية العمل السياسي داخل الدوائر العراقية القريبة من حلقة الحكم، فضلا عن نقص حاد في معرفة حلقة الحُكم العراقية نفسها وكيف تدور)ص 17.

من يقرأ الكتاب سيتعرف على كيفية صعود العسكر إلى الحكم , وكيف تربع البعث على كرسي العراق، ولماذا صدام حسين دون غيره، تمكن من إحكام قبضته على البلاد، وما علاقة الكورد وإيران وتركيا وأميركا وروسيا وصدام حسين والبكر، وكيف عقد البعث مع الشيوعيين الجبهة الوطنية وكيف انفرط عقدها , وقيام الحرب العراقية الإيرانية وغزو العراق لدولة الكويت، كل ذلك من خلال الوثائق الأميركية، وهو بذلك يقلب نظرية المؤامرة، إلى مفهوم السيطرة والتأثير الدولي في علاقات البلدان المتجاورة وتشكل أنظمتها، حيث تكشف الوثائق الأميركية التتبع الحثيث والدؤوب من دون كلل أو ملل لكل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط وخاصة العراق .

إن الكاتب قيس قاسم العجرش يفكك الوثائق لنتعرف على أصول تزويد العراق بالأسلحة الكيمياوية وعمليا الجذب والشد بين العراق وموسكو وواشنطن، من خلال الإجابة عن الأسئلة المتداولة بين كتاب تاريخ العراق المعاصر، مثل من هو ناظم كزار وكيف تآمر على أحمد حسن البكر، وكيف تمت تصفية وزير الدفاع عدنان خير الله ابن خال صدام حسين وقبله محمد ابن البكر بالوثيقة وتحليلها، كاشفا عن أن الدكتاتور تصنعه التدخلات الخارجية بناءً على قابليته لاستيعاب وتقبل أن يكون الأشد بين أقرانه في القسوة.

وفي الكتاب نعثر على أسس العلاقات السياسية بين الدول, باعتبارها ليست حادة الأطراف والملامح بحيث تنحاز إلى النهاية وكأنها حلف لا يتبدل؛ (لقد توصل كلا الطرفين الإيراني والعراقي في الحرب إلى أن الولايات المتحدة راغبة بالتلاعب بهما ومن سخرية القدر أن واشنطن حاولت من جانبها أن تثبت لكل طرف أنها بالفعل كانت على الحياد، وقد تواصلت مع الطرفين لمرات عديدة وفي سرية عالية في محاولة لبناء علاقة استراتيجية مع أي من المتخاصمين) ص98.

وإذا كان لابد لنا من تتبع الدرس التأليفي للكتاب وتسلسل فصوله لإكمال فائدة العرض فإن الفصل الأول يمتد بـ44 صفحة لتقييم نشأة حكومة البعث.

بينما يذهب الفصل الثاني إلى الحرب العراقية الإيرانية حتى صفحة 126 ومحاولات الولايات المتحدة للتقرب من العراق من دون أن تفقد العلاقة مع إيران.

أما الفصل الثالث فهو يحمل خفايا الوثائق عن غزو الكويت حتى الصفحة 208، والفصل الرابع معني بسنوات العقوبات على العراق.

الفصل الخامس من الفصول المهمة، وهو يتحدث عن مرحلة ما بعد صدام (وتشظي الأهداف الأميركية في العراق, ومن ثم تعسر ولادة دولة ديمقراطية تعمل على محو كارثة الحقبة التي حكم بها صدام) ص335.

أما الفصل السادس والأخير فهو عبارة عن استفادة تامة من الوثائق الأخرى القريبة من الشفاهية على شكل لقاءات، وفيها اهتمام ملحوظ بكولن باور السياسي الجمهوري والجنرال المعروف ومشاركته الفاعلة في تغيير خريطة الشرق الأوسط.

وختام الكتاب مع هنري كيسنجر الذي يقول عن شهادته المؤلف العجرش: (إن شهادة كيسنجر هي قراءة لاحقة لما تتلقاه الإدارات الأميركية المتعاقبة من تحليلات استراتيجية أو رؤى عملية تدرس مسارات مواقف أميركا في المنطقة، وتمنح صانع القرار الأميركي فرصة أوسع لاتخاذ قراره بعد ترصين فهمه والإفادة من آراء كيسنجر باعتبارها بيئة تفكير مهمة للبيت الأبيض) ص 389.

وللدارس الذي يبتغي الفائدة من هذا الكتاب، فإن ثلاث صفحات تحت مسمى خاتمة الكتاب، ص391, تعطي فهما ناضجا للكاتب ومعرفته بأسباب استمرار الدكتاتورية في العراق , وكذلك الإشارة إلى ( الاطلاع على هفوات الأميركيين قادة وصناع القرار وأخطائهم في ما فعلوه إزاء العراق ) ص393, داعيا بكل جوارحه إدارة الولايات المتحدة (إلى أن يأخذوا هذا الثقل والوجود العراقي بالحسبان) ص393.

وتجدر الإشارة إلى رأي مركز البيان للدراسات والتخطيط بشأن الكتاب؛ ( في هذا الكتاب، عرض لوثائق خمسة عقود، باتت متاحة أمام الباحثين بعد مضي المدة القانونية لحفظها ورفع السرية عنها.

والهدف من هذا العرض هو فتح أفق عقلي جديد لفهم العلاقة المتوترة بين العراق وأميركا، والإحاطة بأبعاد المشكلات والأخطار في الحاضر والمستقبل). في النهاية لا يمكن معرفة بواطن وتفصيلات الوثائق ودراستها إلا بقراءة الكتاب الذي تليق به النصيحة القديمة للناشرين…كتاب جدير 

بالقراءة.