حين تنتج قصة قصيرة ظاهرة أدبيَّة وتراثاً فنياً

ثقافة 2023/01/25
...

جودت جالي

لم يكن هنري لوسن الشاعر والقاص الأسترالي قادراً على كتابة رواية وحاول مرةً أن يكتبها فرأى المحاولة عذاباً، لكنه كتب في بداياته القصصيَّة (زوجة سائق الماشية) 1892 وفور نشرها أحدثت هزة عظيمة تعادل هزة أيِّ رواية عظيمة بمئات الصفحات وظلت تتردد أصداؤها إلى اليوم وقد ألهمت أعمالاً أدبية وفنية يصعب حصرها.

القصة عن زوجة سائق ماشية عادة ما يغيب أشهراً بحكم العمل فتبقى هي في كوخها الموجود في الدغل الأسترالي ترعى أطفالها وتدفع عنهم مخاطر الطبيعة والإنسان.

زمن القصة ليلة تقضيها المرأة ساهرة تحرس أطفالها الذين أنامتهم فوق منضدة في المطبخ خوفاً من أن تلدغهم أفعى وتظل جالسة وبجانبها عصا وضوء فانوس كليل خشية أن تظهر الأفعى من فتحات خشب الأرضية حيث رأتها تسللت، وإلى جوارها كلب ضار ينتظر بفارغ الصبر خروج تلك الأفعى. 

قضت الوقت من الغروب إلى الصباح تفكر في حالها وحال عائلتها وتتذكر تفاصيل من حياتها وعلاقتها بزوجها إلى أن تخرج الأفعى مع اقتراب الصباح ويقتلها الكلب.

صدرت أول مجموعة قصصية له (بينما الغلاية تغلي) 1896 بضمنها زوجة سائق الماشية حظيت بثناء وشهرة لم يسبق لهما مثيل وقد دعا ناقد إلى أن يشتري كل أسترالي نسخة لأنَّ الكتاب جيد ولأنَّ الكتاب أسترالي حقاً، وقد قالت صحيفة لندن أكاديمي بأنَّ أفكار المرأة في القصة تكشفها لك وهي جالسة هناك وحين تنتهي تكون قد عرفتها كما تعرف نفسك ووصفت جريدة أسترالية المجموعة بأنها صورة واقعية للجانب البغيض للحياة كما تعاش في الدغل الأسترالي وامتدحت القصة مجلات نقدية متخصصة.

كتب لوسن قصصاً أخرى متميزة مثل (النقابة تدفن ميتها) و(دفان الدغل) و(رفيق والده) لكن أيَّ قصة لم تؤثر في القرّاء كما أثرت (زوجة سائق الماشية).

يمكننا اعتبار قصة بربارا بينتون (المختارة) 1896 وجهاً آخر للثيمة بصوت امرأة وبعقلية نسوية وكذلك قصة النيوزلندية كاترين مانسفيلد (المرأة في المخزن) 1912 عن امرأة في عزلة ريفية دون أن نجزم أنَّ قصة كاترين بوحي مباشر من قصة لوسن، مثلما استلهمتها أعمال نسوية عدّة، بتنويعات ثيمية مختلفة طبعاً، خلال القرن المنصرم والقرن الحالي كان آخرها بتفاصيل وشخصيات مختلفة رواية لياه برسيل (زوجة سائق الماشية) 2016 وقد حولتها إلى فيلم ومثلت فيه سنة 2020 (تم تحويل قصة المختارة أيضاً إلى عدة أفلام).

قال الناقد جون ليشفيلد بأنَّ قصة لوسن هي "الأكثر شهرة، وأكثر قصة قُرئت، وأكثر قصة كُتب عنها، وأكثر قصة تغنى الناس بها، وأكثر قصة قُلدت".

نشر رايان أونيل روايته الكرافيك التجريبية (زوجة سائق الماشية) 2014 ومادلين وات روايتها القصيرة (خائفة من أن أوقظها) 2016 وصدرت أسطوانة أوركسترالية عن موضوع القصة، ولكي يأخذ القارئ الكريم فكرة عن مدى الاهتمام نقول في سنة 2017 وحدها صدرت في أستراليا ثلاثة كتب عن لوسن.

في ماليزيا نشر في الأنترنت يوتيوب مثلت فيه طالبات وهن مرتديات الحجاب تمثيلية مأخوذة عن القصة.

نشرت آن كامبلن قصتها (واقع حال سائق الماشية) 1985. 

ونشر كاتب الخيال العلمي الأسترالي قصة (كلب زوجة سائق الماشية) 1986.

كما نشر كريك كورميك (زوجة سائق الماشية) 1996، وجيمس روبيرتس (نادي زوجة سائق الماشية) وهي عمل كاللقطات وبالمناسبة الكاتب مخرج أيضاً.

ويمكننا بالرجوع إلى سنوات القرن العشرين أن نجمع عدداً كبيراً من القصص والأعمال الفنية أنتجت باستلهام مباشر للقصة أو مخاطبة إبداعية لها، ولكن لو أردنا أن نعطي فكرة عن التناسق الإبداعي مع قصة لوسن إذا صح التعبير فإننا نذكر بشيء من الشرح الموجز لوحة رسل دريسديل (زوجة سائق الماشية) 1945 التي لم ينفذها كتقليد لموضوع القصة أو مشهد منها أو أي جانب من الثيمة بل يصحّ أن نصفها بأنها نبش في اللاوعي لإرث كامل، تاريخي وبيئي وثقافي وإنساني، يطلق التأمل فيه اسم اللوحة المطابق لعنوان القصة، ولولا هذه اللوحة لما حصلنا على قصة رائعة كقصة موراي بيل (زوجة سائق الماشية) 1975 حوّل فيها تعاطي السرد من لوسن إلى دريسديل بأسلوبه التجريبي جاعلاً لوحة دريسديل بالأسود والأبيض.

السرد بضمير المتكلم، والسارد يعلق مفتتحاً القصة بقوله: "ربما حدث خطأ، ولكن ليس ذا أهمية كبيرة، في تسمية الصورة، فالمرسومة ليست "زوجة سائق الماشية"، بل هي زوجتي" باعتبار دريسديل قد رسمها بعد فترة قصيرة من هجرها له بدليل تاريخ اللوحة 1945 وأنها ترتدي الحذاء نفسه الذي كانت ترتديه عندما كانا يذهبان إلى الساحل وتحمل حقيبة السفر التي جعلها الرسام تبدو كحقيبة تسوق.

تتطلب معرفة طبيعة الإثارة والتطلع التي تخلقها القصة في نفس القارئ بهذه الكلمات القليلة لما سيحدث فيها أن يكون قد قرأ قصة لوسن أو يعرف فكرتها، وإذا لم يكن قد قرأها فإنَّ تمثله للمضمون بارتباطه باللوحة سيكون مختلفاً، وهذه جزئية من اللعبة السردية التي يلعبها موراي مع القارئ بتحويل الخط السردي من قصة لوسن إلى لوحة دريسديل ومن زوجة سائق الماشية إلى زوجة السارد التي تتركه وتذهب إلى سائق الماشية، وبخلاف هذا سيكون القارئ أمام قصة للوحة ولا تقل

إبداعاً.

هذا العرض والتقييم السريعان يعطيان فكرة عن المكانة التي حظيت بها قصة (زوجة سائق الماشية).