مراثي الأنا المنكسرة في بوصلة عمياء

ثقافة 2023/01/25
...

  مالك مسلماوي

تعيدنا قراءة منجز الشاعر عباس السلامي إلى تعريف الشعر الذي اقترحناه في في مناسبة سابقة بأنه ذات تتكشف أو تتعرّى، وربما ينطبق هذا التعريف على الفن عامة، لأن الفن في حقيقته كشف عن موقف (فردي) مستمد من طبيعة التكوين النفسي والمعرفي والأخلاقي للفرد ومدى تفاعله مع البيئة التي يحيا ويؤثر فيها ويتأثر بها. والشاعر يسعى إلى طرح أنموذجه الخاص بالكشف عن أفكاره وهواجسه ورؤاه محاولا تخطي الأنموذج السائد وما يتوفر عليه من قناعة واستسلام ونمط من المصالحة مع الواقع والقبول باشتراطاته.

 الذات النصيَّة في (بوصلة عمياء)* ذات يائسة محبطة متوترة لا تجد وسط واقع ملتبس معقد أية فرصة للمصالحة والقناعة وتكريس شيء من الروح الايجابية للحياة.. وبدءا من العنوان نشعر بأنّنا أزاء ذات ضائعة تائهة، ثم تتأكد هذه الحقيقة في العتبة التالية تحت عنوان (مدخل) إذ نقرأ: «إلى أين ووجهتنا تتهجانا بوصلة عمياء؟». والخلاصة نظرة سوداوية متشائمة سالبة تظهر فيها الحياة لعبة خاسرة.. يقول في النص الأول من هذه المجموعة تحت عنوان (أبجدية أخرى): «أعمل كل ما بوسعي/ كي تدبَّ خطاي/ وأنا أدفع الأشواك/ بدم دافق/ لا لشيء/ بل من أجل أن أبعث الحياة/ في الطريق».  

صورة موجزة لصراعٍ دامٍ من أجل إعادة الحياة لعالم ميت عبر عنه بـ (الطريق) وهو طريق الحياة ومسيرتها القاسية.. وعلى الرغم من كل شيء هناك تحدٍّ وعملٌ مضنِّ وصولاً إلى الغاية، الحياة بصورتها الأخرى. 

والعجيب أن هذه الحياة غير ممكنة لا في الواقع ولا في خيال الشاعر. فالموت هو سيد الموقف ذلك ما يحيلنا إلى نظرة الشاعر أبي العلاء المعري (363/ 449 هـ)، الذي اختار العزلة ونفر من المجتمع لما تعرض له من المتاعب فكره الناس والحياة وعدها بطرفيها -الموت والولادة- مجردة عن المعنى، يقول في إحدى مراثيه: «تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعجبُ إلَّا من راغبٍ في ازديادِ».

مجمل ما تنطوي عليه المجموعة هو مزيجٌ من المراثي والأهاجي في سرود موجزة لحركة الصراع بين الذات والواقع من جهة والذات مع ذاتها من جهة أخرى.. ونستشف بجلاء أن هذا الصراع يبدو غير متكافئ على الدوام، إذ يكشف عن حالة القلق والضعف والخوف التي تكابدها الذات في جبهتين داخل/ خارج: «جسدي نحيف/ إلى الحد الذي/ أراه يحملني بالكاد/ لهذا تراني/ أحرص كل الحرص على أن/ أمشي جنب الحائط/ خشية أن/ يمرَّ ظلّي فوق نملة عابرة/ فتهب لحظتها جيوش النمل/ فتلتهم جسدي النحيف!».   

إنَّها مشاعر الخوف والقلق من المصير المتربّص بالإنسان الشاعر الممتلئ يقينا بأن لا جدوى ولا أمل ولا قدرة على المواجهة، و»النمل» هنا يحمل رمزيَّة الموت والنهاية المخيفة، وهكذا دائما ما يتحول النص إلى حوار وجودي خاسر ليكون بمثابة إعلان عن الاستسلام والاعتراف بالهزيمة: «لا دخل لي/ في سنوات العمر/ التي تساقطت من سلّة الحياة/ لا ذنب لي/ في كل من تساقط من سلّة الأصدقاء/ كم حاولت ردم الثقوب الغائرة في السلّتين/ لكن دون جدوى!». 

وأزاء هذا الاحباط واللا جدوى تمارس الذات النصيَّة المناورة بلعبة جديدة في التمويه ولبس الأقنعة ومخاتلة الواقع، لكنها في النهاية مناورة لم تغير في حقيقة الامر شيئاً، نقرأ: «من اليوم/ لن أحمل حزني على يدي/ وأطوف به بين البلدان/ لن استجدي به شفقة أو رحمة/ سأتظاهر أمام الناس بالرضا/ سأفتعل بدلاً من الحزن/ ابتسامة عريضة تسع الكون».  

 لقد جعل السلامي (أناه) محورا تدور حوله نصوصه، فكل نص ينطلق منها ويعود إليها، راويا ما تعانيه من أزمة فقدان الثقة واسوداد الافق وتلاشي الأمل.. واستجابة لهذه الهواجس تختار هذه الأنا العزلة والحذر من التعاطي مع الواقع الخارجي المسؤول عن كل ما تعانيه، ويقول: «لقد أساءت لي الحياة كثيرا/ لهذا ليس لي من خيار/ سوى أن أشاكس الحياة بالعزلة..»، فالشاعر مقيم بل رهين محبس اختاره، وما يجرؤ عليه هو سلسلة متصلة من مرويات الألم بنصوص تسرف في إدانة الواقع وهجائه من جهة وتبرئة الذات من الجهة المقابلة، لذا تتكرر في نصوصه بشكل (مفرط) ألفاظ الندم والتحسّر والتوجّع مثل: آه/ ياه/ يا للأسى/ يا للحزن.

اللغة التي كتبت فيها النصوص لغة لينة مرنة ذات دلالات واضحة تعتمد المفارقة والشفرة المتقنة وصدق التعبير، فشعر عباس السلامي صورة صادقة عنه والشعر إذا فقد الصدق فقد جدواه، لذا فالشعر هو الملاذ الوحيد للشاعر بعد أن أسقط كل شيء وحتى معادلة الحب والكره لديه محسومة بتكافؤ بين شعورين متناقضين الحب والكراهية، وربما تتفوق لديه مشاعر الكراهية أحيانا، لذا يقول: «أراني ما إن أسمع بمفردة الحب حتى أشعر بالرعب.. ويستطرد: في أحايين تتفاقم فيَّ الكراهية إلى الحد الذي أخجل فيه من نفسي».

أزعم أن انكفاء النص على (أناه) يفقده قدرته على التجدد ومحاورة العالم، وقد تابعت منجز السلامي منذ أمد بعيد وكنت انتظر لحظة خروجه من (أناه) ليعبر بقاربه إلى الضفة الأخرى فهو يمتلك المجذاف/ اللغة لما لديه من خبرة طويلة في تطويع اللغة وانفتاح دلالاتها.

***

عباس السلامي/ بوصلة عمياء/ منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/ ط1. بغداد/ 2022.