من الجنان المفقودة إلى بوابة السماء

ثقافة 2023/01/26
...

  كامل عويد العامري

تواجه رحلة عبور الزمن هذه تحديا هائلا: إنها تروي قصّة الإنسانيّة في شكل رواية. تجول عبر القرون، من خلال احتضان العصور، والشعور بالاضطرابات، شغل هذا المشروع العملاق إريك إيمانويل شميت. من خلال تراكم المعرفة العلميّة والطبيّة والدينيّة والفلسفيّة، وهو يخلق شخصيات قوية ومؤثرة وحيوية، فيها يدفعنا من عالم إلى آخر، من عصور ما قبل التاريخ إلى أيامنا هذه، من التطورات إلى الثورات، بينما يسلط الماضي الضوء على الحاضر. من الفردوس المفقود إلى بابل وبرجها: بوابة السماء.

تطرح (الجنان المفقودة) الجزء الأول من عمله- الملحمة، مغامرة فريدة. نعوم هو البطل. ولد قبل 8000 عام في قرية على ضفاف بحيرة، في قلب الطبيعة الفردوسيّة، يواجه مآسي عشيرته في اليوم الذي التقى فيه بنورا، وهي امرأة آسرة لا يمكن التكهّن بها، تكشف له عن نفسها. فيواجه كارثة شهيرة: الطوفان. لم يأتِ الطوفان بنعوم إلى التاريخ فحسب، بل حدد مصيره. هل سيكون الوحيد الذي يسافر عبر العصور؟.

مع هذا المجلد الأول في سلسلة من ثماني مجلدات، يتولى إريك إيمانويل شميت سرد تاريخ العالم من خلال نظرة إنسان خالد. هو نعوم الذي وُلد قبل 8000 عام، في هذه الفترة من العصر الحجري الحديث، في نهاية العصر الجليدي، عندما استقرَّ الإنسان، على نحو متزايد، في مجموعات منتظمة، وبدأ بالزراعة وتربية الحيوانات والتقنيات. هذا الشاب كان موزعا بين الحرية القديمة لمخلوق بدائي في الطبيعة البكر، والرفاهية الجديدة المصحوبة بالالتزامات الاجتماعيّة داخل قريته، يقع الشاب في حب نورا الجميلة وينتهي به الأمر إلى تولي دور زعيم مجتمعه الصغير، عندما يحمله الطوفان وعائلته بعيدًا في هجرة هي فرصته الأخيرة... هذا الحدث، الذي سيصبح أسطوريًا، يختم أيضًا مصير نعوم الذي كان مجردا من وضعه البشري، ليجد نفسه يسافر عبر العصور...

ليس هذا هو الاهتمام الأساسي للرواية، فمغامرات نعوم ليست سوى ذريعة ذكية للتشكيك في حداثتنا من خلال إعادة قراءة تاريخ العالم وقصصنا التأسيسيَّة. مسلحًا بمعرفته التاريخيّة والفلسفيّة والأدبيّة، يشرع الكاتب في تكوين تركيبة مبهرة بقدرِ ما هي مسلية، حيث تتقاطع باستمرار، بأكثر الطرق حيويّة ممكنة، وهو يشير إلى التيارات الفكريّة الرئيسة في كل العصور، من الأساطير العظيمة إلى الأديان، من الفلاسفة القدامى إلى الحديثين.

وبالرغم من أنَّ الرواية ليست أكثر من مجرد قصّة رومانسيَّة ممتعة، فإنَّ (الجنان المفقودة) تبدأ من منظور رائع عن الوضع في العالم المعاصر، من خلال إعادة قراءة التاريخ والنصوص التأسيسيَّة للإنسانيَّة.

يستيقظ نعوم، هذا الشاب الغامض، من نوم طويل، في كهف، في زمننا الحاضر. ماذا يفعل؟ إلى أين يذهب؟ وفي أي ولاية يتجول؟، في مواجهة تهديدات الفوضى، خائفًا من مخاطر حضارتنا، يتعهد بكتابة قصة حياته. قصة مهمة منذ أن ولد، في قرية على ضفاف البحيرة، وسط الطبيعة الكريمة. ويأخذنا إلى «بلد الجداول والأنهار، على حافة بحيرة، تحولت إلى بحر»، هذه اللجنة الأرضية الشهيرة، حيث سيقابل المرأة التي ستطارد أيامه ولياليه، والتي ستكشف له عن مصيره الخارق، نورا الغامضة التي يعشقها. 

 لقد اختبر نعوم اللحظة المحوريّة للإنسانيّة، عندما توقف الناس عن أن يكونوا بدواً بدائيين واتجهوا نحو الاستقرار. وهو يعرف تقنيات النار، والملابس، والقتال، والزراعة. إنّه يتواصل مع الحيوانات والنباتات، ولكنّه يبحث بشدّة عن جوهر الحياة.  

يأخذ إريك إيمانويل شميت الطوفان كنقطة انطلاق للحضارة. استنادًا إلى أحدث الأبحاث العلميّة، ابتكر شخصيّة نعوم التي ترشدنا عبر تقلّبات وتحولات التاريخ حتى قبل ولادة الكتابة: حافة بحيرة تحولت إلى بحر.

كانت العودة إلى بداية الزمن، بداية الإنسانيّة، لإضفاء الطابع الإنساني عليه بشخصيات من لحم ودم، أمرًا مثيرًا للاهتمام. «نحن في تناغم تام مع نعوم، في قصته، وأحيانًا نحسده هذه المرة، هذه العلاقة مع الطبيعة، هذا الاستقلال الذاتي، عندما نعتمد كليًا على بعضنا البعض وعلى البيئة. لقد أظهر تاريخ COVID بل أكثر”، ليشير إلى ذلك. ويرى الكاتب، أنَّه في، “هذا العصر الذي يعد غامضًا وغير مثير للاهتمام بحكمته الخاصة، وطريقته الروحانيَّة في التفكير في العالم، حيث كان الإنسان أحد مضيفات الطبيعة، من بين مضيفين آخرين، من دون وضع استثنائي. لم يظن الإنسان أنّه متفوق وينتمي إلى جماعة عظيمة يحترمها ويكرمها”.

يأخذنا الكاتب عبر العصور المتعاقبة. إذ يعبر نعوم العصور ليحمل مسار الإنسانيّة الهش ويخبرنا بالقصة الكونيَّة. وستمر المرحلة التالية من “رحلة الزمن” عبر الجزء الثاني (بوابة السماء) وحضارة بلاد ما بين النهرين حيث يواصل بطل إريك إيمانويل شميت الإعجازي عبوره لنهر الزمن. بعد العصر الحجري الحديث، وها هو منغمس في تحقيق جديد في قلب الشرق القديم.

لقد اختفت نورا وسُلبت من نعوم في ظروف غامضة. فقاده سعيه الأخير الطويل للعثور عليها إلى بابل، فيكتشف عالمًا متغيرًا، تلك هي بلاد ما بين النهرين، ويُطلق عليها أيضًا أرض المياه العذبة، التي اخترع سكانها لتوهم المدن والكتابة وعلم الفلك. وفي بابل، المدينة الصاخبة والملونة، الجميلة ليل نهار، يواجه الطاغية نمرود. الذي، من خلال اللجوء إلى العبودية، يبني أعلى برج يمكن تصوره على الإطلاق والذي سيشكل بوابة إلى السماء ظنا منه أنه سيتيح له الوصول إلى الآلهة.

يدخل نعوم بصفته معالجا في جميع مناحي الحياة ويقوم بلقاءات مذهلة: مائيل الطفل الشاعر، جاوان الغامض الملقب بالساحر، الملكة كوبابا ملكة مدينة كيش، المذهلة بالذكاء، المؤلفة الأولى وراء ملحمة جلجامش، كما يرى الكاتب، والرعاة الرحل بقيادة إبراهيم، فضلاً عن شخصيات الرواية الآخرين الذين سيساهمون في جعل بلاد ما بين النهرين مهد الحضارات التاريخيّة للشرق الأوسط وأوروبا، إلى جانب مصر القديمة.

ماذا سيختار نعوم؟ هل سيضحي بميوله العميقة ليكرّس نفسه لمحاربة الظلم؟ في هذا المجلد الثاني، ينفض إريك-إيمانويل شميت الغبار، بمعرفة واسعة، لهذه الحقبة استرشادًا بأحدث أعمال علماء الآشوريّات، ليستعيد بلاد ما بين النهرين المعقدة والرائعة التي لا يعرف عنها القارئ الأوروبي سوى القليل، والتي يُدين لها بالكثير. وهنا، ما هو مبهر، وهو يتتبع، بطريقة رائعة، ظهور الحضارات الأولى في بلاد ما بين النهرين. في السهل الخصب الذي يحده نهرا دجلة والفرات، قبل عصرنا بنحو ثلاثة آلاف عام، حيث ظهرت المعارف والاختراعات الكبرى: الكتابة، والعجلة، والتطورات الجوهرية في الزراعة، والمدن الأولى ... لقد حملت هذه المستجدات بذور حضارتنا الحديثة، والتي يفكك شفراتها نعوم لنا من منظور تاريخي وفلسفي.

إذا كان المجلد الأول من هذه الملحمة قد ينقل القارئ إلى ما هو أبعد من الإعجاب، فإنَّ الحماس هنا يقاس بشكل أكبر نسبيًا بسبب ما تثيره خيوط الحبكة ومع ذلك، لا يوازن هذا كثيرًا مع الثراء التاريخي والثقافي والفلسفي الذي لا يمكن إنكاره للسرد، والذي، على مدار العديد من الملاحظات الرائعة، يؤدي إلى منظور رائع حول تطور الإنسانيّة، لا سيما من خلال أساطيرها. “مَنْ هِيَ الْمُشْرِفَةُ مِثْلَ الصَّبَاحِ، جَمِيلَةٌ كَالْقَمَرِ، طَاهِرَةٌ كَالشَّمْسِ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ؟ “سفر نشيد الأنشاد” 6، 10.

إنّها سارة، زوجة إبراهيم، التي استثمر قصتها أريك إيمانويل شميت لينسج حبكة تروي ولادة بابل التي يحكمها نمرود، الملك القاسي العنيد. هذه المدينة الرائعة والأسطوريّة هي المسرح الجديد المنفتح الذي يعد فيها نارام سين الملقب نعوم، البطل الأبدي والخالد.

ثم تأتي الكتابة المسمارية لتأسر وتخلق الروابط، التي تهدف إلى تسجيل الواقع، تبهر وتصبح أدبًا عندما تخترع قصصًا قابلة للنقل تسحر الوجود وتضخمه وتجعل من الناس يحلمون إلى ما لا نهاية: “لقد ملأ نعوم للتو الألواح الأخيرة بالنقوش المسماريّة ونشرها على الغرانيت في المطبخ، وهي كتل صغيرة من الصلصال لا تزال طرية ورطبة. يتعامل معها بدقة. تُشوى الدفعة الثانية على نار هادئة بينما كانت الدفعة الأولى، قد شويت ووضعت على الأرض، لتجف. وكان حسن أن صوّر خمسة ألواح، فركها بمبشرة لتصبح قديمة، وبيضها برمل الحديقة، وغادر ليوزعها.

لحسن الحظ، لم ينسَ نعوم الكتابة السومريَّة وعلاماتها. في ذلك الوقت، كان مستاءً، فقد اعتبر أنّه من المعجزات أن تنقل الكلمات من دون النطق بها. ما الثقل النوعي الذي اكتسبه الإنسان فجأةً!”.. لقد أتاح اختراع الكتابة لذي قدمين، ومن دون ريش أن يتحدى المصير: كانت حروفها تمحو الموت. ووفقًا لنعوم، لا شك في أنّها أحدثت ألف تقدم في العلوم والقانون والتاريخ، لكنّها أيضًا تمثل بداية التضخم. يرتفع الفرد، ويضخم من أهميته، ويعلو فوق حالته، متنكرا لضعفه، وزواله، ونهايته، كان الحائزون الأوائل لهذا الامتياز، هم الملوك، الذين كان لديهم كتبة للتواصل مع الأحياء في تلك اللحظة وأحياء المستقبل، بنوا لأنفسهم مقابر كلمات أكثر صلابة وأوثق من قبورهم الحجرية، ثم توسعت هذه الممارسة اجتماعيًا. إذا اختفت الجملة التي أوضحناها مثل ذوبان السكر في الماء، فإنّ الجملة التي نكتبها تظل محفورة بالرخام، حتى عندما تفسح هذه الجملة المجال لأوراق البردي، وجلد الحمل، والورق، والشاشة. من خلال منحها الأبديّة، لقد غيّرت الكتابة الإنسان. من خلال جرد بسيط للأشياء، أصبحت مستودعًا للأرواح: لقد حاربت الشقاء، وغذت الكبرياء، وتوددت للنرجسية المطلقة، وطورت من الفردانيّة. من خلالها، نما الغرور بالقدر الذي نمت فيه الحضارة.

يتسلل حسن بعيدا. مرعوبًا، يداعب الألواح.

-  كنت أعتقد أنّك متخصص في عصور ما قبل التاريخ.

-  أكملت تدريبي بدراسة بلاد ما بين النهرين ولغاتها، السومرية والأكادية. علينا أن نتعلم مما سبقنا لكي نعرف ما سيأتي.

-  وفقًا لمنطقك، يجب أن نتعلم تاريخ العالم بأكمله! هل ستكون هذه قضيتك؟»

ذلك هو تحدي المصير.

في مقابلة مع الكاتب، قال: “إنها مغامرة، هذه الرواية الهائلة التي ستكون من 5000 صفحة، لكنها أيضًا أحد أهم الأعمال في حياتي منذ أن خطرت لي فكرة هذا الكتاب عندما كان عمري 25 عامًا، سيكون الفردوس المفقود بثمانية مجلدات.. أنا، في الستين من عمري، أتفق مع ذلك الشاب الذي كنته وكانت لديه الفكرة، لكنه لم يكن قادرًا. وفي سن الستين، أقول لنفسي: هذا كل شيء، يمكنك فعل ذلك! لدي انطباع بأنني في وئام بين الشاب والرجل الناضج، وبين مشروع أصبح ممكنا من خلال حياة الكتابة والتفكير. إنّها لحظة سعيدة جدًا في حياتي

ككاتب».