محنة التغيير

آراء 2023/01/26
...

 ميادة سفر

 يتوجس الناس عادة من كل جديد يطرأ على حياتهم، ويخافون من الإقدام على اتخاذ خطوة جديدة في حياتهم، سواء على الصعيد الشخصي أو في مجال العمل أو في الحياة بشكل عام، وحتى في الحياة السياسية غالباً ما تخشى الشعوب من التغيير، الذي يمكن أن يطرأ على النظام السياسي الذي اعتادوا عليه على مدى سنوات، وإن كان نظاماً دكتاتورياً قمعياً ورغم الأزمات الاقتصادية يترددون كثيراً قبل الإقدام على خطوة باتجاه التغيير.

إريك هوفر في كتابه «محنة التغيير» الصادر عن الدار الليبرالية في سوريا بترجمة شيرين علوش وتقديم جورج برشيني، يعتبر «أن السكان الذين يمرون بتغيير جذري هم سكان غير أسوياء، حيث يحتاج الأمر إلى ثقة مفرطة بالنفس لمواجهة التغيير الجذري من دون اضطراب داخلي»، هوفر الذي وجد صعوبة وتردد كثيراً بينما كان على وشك التوجه إلى حقول الفاصولياء، وهو الذي تعود على قطف البازلاء، بالنسبة لأمر صغير كهذا سبب قلقاً فمن الطبيعي أن يكون القلق أكثر عمقاً وديمومة في حالة التغيير الجذري.

يشكل العمل أحد أهم الركائز التي يسعى إليها الأفراد في أي مجتمع، وحين لا يعثر الأشخاص الساعين أو الخاضعين إلى تغيير جذري سوى على فرص ضئيلة للعمل، أو حين لا يسمح لهم بتحقيق الثقة بالنفس واحترام الذات، يعتقد هوفر أنّ الإيمان هو البديل، وأنّ الاندماج مع الآخرين في مجموعة مدمجة هو بديل عن التوازن الفردي، ألم يشكل الانضمام إلى التنظيمات التي تتلطى تحت مظلة الدين شكلاً من هذا الهروب الذي يشير إليه هوفر في كتابه؟، وهو الذي أشار في كتابه «المؤمن الحق» إلى أنّ الحركات المتطرفة تحدث من أفراد محبطين، إذ ينتسب الناس إلى الحركات الثورية لا لتغيير العالم فحسب، بل لإشباع رغبتهم في تغيير أنفسهم, لذلك غالباً ما يفشلون، ويمكننا إسقاطها على ما حصل في غير بلد في العالم وفي منطقتنا العربية. يقال عادة إنّ الثورات تهدف إلى تغييرات جذرية، غير أنّ إريك هوفر يعتقد أنّ التغيير الجذري هو الذي يمهد للثورة، إذ يتولد الطبع والمزاج الثوريان من خلال الاستفزازات والصعوبات والإحباطات المتأصلة في تحقيق التغيير الجذري، فحيث لم تتغير الأشياء تقلُّ احتمالية حدوث ثورة.

من بين الاسقاطات المهمة التي تضمنها كتاب «محنة التغيير» لأريك هوفر مسألة الكتابة، حين يشير إلى ما أحدثه اختراع الكتابة من ثورة في نقل المعرفة والأفكار، فقد كان لظهور الكتابة تأثير فوري ومصيري من خلال ظهور الطبقة المثقفة، تلك الطبقة التي تصبح عاملاً في الاستقرار الاجتماعي، مشيراً إلى التواطؤ بين السلطة والمثقفين، إذ إنّ الطبقة الحاكمة التي تتمتع بالقوة والاستحقاق قد تنحرف ما لم تعرف كيف تكسب وتحافظ على ولاء المثقفين، مؤكداً أنه حيث يوجد تنظيم اجتماعي طويل الأجل، يكون هناك غياب لطبقة مثقفة أو تحالف وثيق بين المثقفين والنظام السائد. في آخر فقرات الكتاب يحكي هوفر تحت عنوان «دور المكروهين» عن أولئك المشردين الذين وجد فيهم تقارباً مع الرواد، لجهة الأثر الذي سوف يتركوه في البلاد التي لجأوا إليها، إذ يعتقد أنّ «كل هؤلاء الأشخاص تواقون إلى التغيير، لعل البعض يكون مدفوعاً بالاعتقاد الساذج بأنّ تغيير المكان يجلب معه تغيير الحظ» وهو ما يمكن إسقاطه على الكثيرين من الأفراد الذي تركوا بلادهم هرباً من حرب أو ملاحقة، إلى مكان لا يعرفونه وأرادوا البدء بداية جديدة، لا شكّ أن الكثيرين ممن لجؤوا من بلادنا تركوا بصمة في البلاد التي اختاروها بديلاً عن أوطانهم، تحديداً أولئك الذي نفضوا عن أكتافهم موروثات الماضي واندمجوا في المجتمعات التي استقروا فيها، ويختم هوفر بالإشارة إلى أنّ: «الإنسان ليس أسيراً لماضيه، أي لوراثته وعاداته، بل يمتلك مرونة غير محدودة، وأنّ إمكاناته للخير والشر لا تستنفد

 بالكامل».

يعتبر «محنة التغيير» واحداً من أفضل أعمال هوفر التي تعنى بالطبيعة البشرية، وهو محصلة سنوات من اكتساب المعرفة والتاريخ والعلم، التي شكلت مجتمعة أساساً لرؤيته للحركات الجماهيرية، كتاب لا بدّ منه لكل إنسان يريد فهم أهمية التغيير الذي طال الإنسان عبر التاريخ، وإعادة النظر إلى العالم ومعرفته.