يوميَّات مهرجان المسرح العربي في الدار البيضاء

ثقافة 2023/01/28
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب

 

هبطت طائرتنا التركية في مطار الدار البيضاء بعد رحلة مضنية دامت أكثر من خمس ساعات من استنبول اليها بعد أن غابت عنه لأكثر من ثماني سنوات أقدام فنانينا ومثقفينا بسبب المنع السياسي المفتعل الذى قضى على مشاركاتنا الفنية في المملكة المغربية طيلة تلك السنوات.. في الاثناء ونحن في صالة الاستقبال حدثني زميلي وهو يشعر بتعب الرحلة ولم يكن انذاك احد باستقبال وفدنا: أن هذه الدورة ستكون ضعيفة وواهنة تنظيميا ـ والخطاب باين من عنوانه ـ اجبته بتململ: لننتظر ونر.. وما أن مرت دقائق معدودة وبإجراءات إدارية بسيطة دخلنا.. حينها أطل علينا المسرحيون المغاربة من كل حدب وصوب وهم في استقبالنا بابتساماتهم وتهليلهم الذي أزال عنا تعب الرحلة ونصبها يوجهوننا نحو باصات حديثة تنقلنا إلى فندق (مكدوور) وسط المدينة المطلة على الاطلسي فكنا والوفد الأردني آخر الواصلين من الوفود ذلك اليوم..في دورته الثالثة عشرة يعيش مهرجان المسرح العربي الذي تقيمه الهيئة العربية للمسرح أيام زهوه وركوزه بعد أن خبر أعواماً من الحضور والانجاز والتباري المسرحي المحترف.. أعواماً من النكوص والإقدام من التذبذب والرصانة بعد أن حل بين عواصم عربية عديدة أضيئت أنوار مسارحها وخشباتها وصدحت أصوات مبدعيها برسائل فكرية وانسانية عميقة غذت حواسنا بكل ما هو مفيد ومبتكر ومعاصر، وجاءت ايام العروض لتغير من مزاج لحظاتنا الأولى ونحن في أرض المطار لنكون أمام أحد عشر عرضا من أربعة بلدان عربية هي العراق والمغرب وتونس والامارات ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان وبعروض موازية أخرى من سوريا ومصر والاردن والكويت لاتقل أهمية وشأناً عن عروض المسابقة الرسميّة خصوصا العرض الكويتي (اي ميديا) للمخرج (سليمان البسّام) الذي حلّق بمستوى المهرجان بعيدا نحو فضاءات غنية بالابداع .. فكانت الدورة بحق من أفضل دورات المهرجان العربي للمسرح لما شهدته من منافسة شديدة على الجائزة وبمستويات فنية متقدمة فضلا عن نضج الفعاليات الموازية كالمحور الفكري والندوات النقديّة التطبيقيّة والورش وطباعة الكتب المسرحية وترويجها..


مسرحية ما تبقى لكم.. القضية الفلسطينية بتأطير مغربي

في مسرح مولاي رشيد عرضت اولى مسرحيات المهرجان وهو مسرح بعيد نسبيا عن مركز المدينة  وأتساءل.. هل كان للمأساة ان تختلف؟ ام هل كان للاقدار أن تكون أرحم بعائلة فلسطينية لو تحدثت الدارجة المغربية تجيب المسرحية بالنفي القاطع.. وجاء انزياحها الوحيد عن فضاء رواية (ما تبقى لكم) لـ (غسان كنفاني) هو اللغة وبقيت الفضاءات بين غزة والاردن والصحراء واسماء الشخصيات والأصل الفلسطيني ذاتها ففي فضاء ثابت وبيت موحش تتوالى الأحداث.. أخوة، إحساس بغياب الأم .. تعب يومي.. خيانات.. ألم مقدر وبحث عن الكرامة (كنفاني) الذي تتوسط ملامحه في سينوغرافيا المسرحية ملامح لينين وماركس إعلانا لالتزامه السياسي يطل بين الفينة والأخرى مؤطرا المشهد العام: ليست مجرد مسرحية استقيت من رواية انما هناك مقاومون من دونهم قسّم القدر مصائر هذا الشعب بين صادق مقاوم ينكر حياته وبين من هو دونه، (زكريا) يمثل جانب الخسة يهوي امام المحتل عارضا أن يسلمه المقاوم يسرق النظرات والابتسامات يسرق في جنح الليل ما ليس له من اخت ورفيقه، لا يعتد بتضحية زوجته التي رافقت وانجبت وربت الأبناء.. يهيم الأخ في الصحراء تبدو الأم ذكرى بعيدة ممتنعة من زمن آخر، تشد الأخت على الكوفيَّة أداة تطهير للسيئ فيناً حتى لا نستسلم له حتى لا نطبع مع الخيانة، قدم العرض تصوراً دراماتورجيا وسينوغرافيا من قبل (عبد المجيد الهواس) يشي بثقل المأساة ومتواليتها الدائرية المستعادة.


أنا الملك.. عودة لسؤال السلطة

في قراءة تونسية جديدة لنص (توفيق الحكيم) (أنا الملك) يقدم الدراماتورج (رضا ناجي) والمخرج (معز حمزة) تصوراً تجريديا لثيمة السلطة ونقدها كاشفة قبح العلاقات الإنسانية وتسلط الآخر على ثنائية البقاء والفناء.. في (أنا الملك) تتجسد سيميائية الصورة التي تجمع ألوان الأبيض والأسود يتخللها اللون الأحمر، في عمق الصورة يتشكل الصراع بين الحياة والموت صراع البقاء يقوده الدم منذ المشهد الأول يضع المخرج المتلقي أمام فكرة التبعية والسؤال عن الحرية، جسد يجلس على كرسي يلتحف بالسواد نصف الوجه أبيض ناصع والنصف الآخر أسود قاتم يتضح ان الجسد لامراة تحرك حبلا طويلا مشدودا الى شيء ما، أنا الملك مجموعة من المشاهد تحمل المتلقي الى نصوص عالمية لشكسبير ومارلو جمّعت وحولت إلى نص تراجيدي يشرح العلاقة النفسية بين صاحب السلطة ومن يصنعه؟ من يحركه؟ من ينثر الدماء بدل الورود؟ في نهاية المسرحية يضطر الملك للموت بعد فشله في مصارحة شعبه بالحقيقة فهناك قوة خفية ترفض قوله للحقيقة وتتهمه بقتله للملك السابق وتضيق المساحة بينه وبين شعبه لينتهي العرض بجملة (شعبي التعس) وهي الجملة التي انطلق منها العرض.


خلاف... حينها ابتدأ المهرجان

في ثاني أيام المهرجان تطل علينا مسرحية (خلاف) وهي من تأليف وإخراج مهند هادي وتقديم الفرقة الوطنية للتمثيل العراقية ومن هذا العرض أعلن المهرجان عن تميزه الفني وبدايته الحقيقية وطرقه جرس انذار للفرق المنافسة في ضوء تقديم المسرحية لثيمة عالمية بإطار محلي تناقش في مضمونها مشكلة الإرهاب وعلاقته بالدول الكبرى ورؤية العرض للاخر المتربص بدول العالم الثالث من خلال أسرة مكونة من أم تنتمي لأسرة شيوعية وولدها الوحيد الذي يطلب من والدته بإلحاح الهجرة إلى اوروبا عن طريق تركيا ليبدأ حياته من جديد، تمضي الأم معه وتودعه على سواحل استنبول إلا أنها تصدم عندما تعود إلى بغداد بأن ابنها ملتحق بأحد التنظيمات الإرهابية من خلال تحقيق طويل يجريه معها في بيتها محقق يتوزع بين سلطتي الداخل والخارج فكأنه تارة محقق أممي وتارة أخرى محقق محلي يكشف أوراق اللعبة البوليسية بدخوله ضمن لعبة السرد بوصفه راويا عليما تارةً وراويا ضمنيا وراويا بريشتيا في تنويع ثالث للروي لكسر يقين السرد ولجعل المتلقي يقظا منتبها لما يرى أمامه على الخشبة لعب الممثل هيثم عبد الرزاق أقوى أدواره من خلال ضبطه الجسدي والصوتي لشخصية المحقق التي لعبها باتقان وقدرة عجيبة في النفاذ لدواخل تلك الشخصية الزئبقيَّة المتكئة على ثنائيتي الحضور والغياب في تمسرحها وتجسيدها البصري والحضور اللافت للممثلة سهى سالم في أدائها لدور الأم الممزقة الوعي بين ماضي أسرتها اليساري وبين تفكك اليسار واضمحلاله واندحار مفاهيم الاشتراكية والثورة الدائمة باتجاه مفاهيم أخرى جديدة كالبراغماتية والذرائعية وسيادة القطب الواحد في النظام السياسي العالمي، والممثل المتوقد مرتضى حبيب بدور الابن المهاجر والمنضم لمنظمة داعش الارهابيّة قدم أنموذجا للممثل المنسجم في عمله مع الفضاء المسرحي والسينوغرافيا بضبط سبرنطيقي لجسده وصوته متناغم مع المجموعة.. وقد رشح العرض ضمن أفضل خمسة عروض في المهرجان حسب ما اورده بيان لجنة التحكيم في حفل الختام.


حدائق الأسرار... حدائق الروح

يشي فعل الكتابة الجديد في الحركة المسرحيّة المغربيّة المعاصرة بالدخول في فواعل السرد وتحويله لجنس الدراما من منطلقات (شعريّة)، (صوفيّة) تعتمد (المونولوج) وتفعيل المنظومة الصوتية بسحرها الآتي من أصوات الطبيعة والكتابة المنقوشة على الشاشات وهي تحكي قصة المسرحية بمضمرها الذاتي الذي لا تبوح به الشخصيات للمتلقي إنما يقرؤه المتلقي منقوشا، ففي عرض (حدائق الأسرار) كتابة وإخراج محمد الحر يلفت انتباه الجمهور منذ دخوله القاعة العناصر المؤثثة للخشبة من (مراوح) و(ميكروفونات) وطاولة للتحكم بالاضاءة يجلس عليها مخرج العمل، أما في الجانب الأيسر للخشبة فهناك تمثال رأسي سلطت عليه الاضاءة، تنبئ جميع هذه العناصر ان العمل يسير بالاتجاه الرمزي، يلعب أدوار المسرحية الممثلون جليلة تلمسي وهاجر لحميدي وياسين احجام وتدور حكاية المسرحية عن أسرة تتكون من أب وأم وابنتهما من أسرة تبدو ثرية وتبدو العلاقة بين الأم والأب متذبذبة بسبب زواج تقليدي عن غير حب فرضته تقاليد الأسرة، وهذا 

المنوال نفسه في الزواج يحاول الاب فرضه من خلال ربطها برجل من الأثرياء لا تحبه.. فتفر البنت في ليلة زفافها وتلقى حتفها في حادث أليم، وبدأت أسرار المسرحية تتفكك شيئا فشيئا من الخفاء إلى العلن كاشفة عن وهن وضعف العلاقة الأسريَّة التي بدت في ظاهرها متينة لكنها في باطنها يسودها التوتر 

والصراع.

الروبة... صراع الشوارع الخلفيَّة 

يستند عرض مسرحية (الروبة) بنص وإخراج المخرج التونسي حمادي الوهيبي على فضح سافر للمسكوت عنه والمضمر في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة التونسيّة بعد الثورة وهذه المرة يقع المخرج/ المؤلف على بغيته في سلب القضاء أرديته التقليديّة الظاهرة وتعريته منها وكشف العلاقات الخفيّة داخل فضاءات المحاكم وشوارعها الخلفيّة وما يمور فيها من قضايا لا أخلاقيّة تمارس بين المحامين والقضاة من رشى وفساد جنسي ومالي وإداري بحيث تحولت مركزية القضاء المقترنة بهيبة الدولة الى قيمة تداوليّة تتحرك في الفضاء العمومي من الممكن نقدها والاحتجاج على ممارساتها، لقد تحول القضاة والمحامون أثناء العرض الى متهمين ومذنبين يقفون خلف القضبان والشهود هم الجمهور المسرحي حيث تحولت قاعة العرض المسرحي إلى محكمة فنتازية كبيرة نمت عن مدى التعالق في الأسلوب الملحمي ما بين العرض والمتلقي ومحاولة إشراكه في انتاج الخطاب من خلال الفعل التأويلي، قدمت دلالة رداء (الروبة) في العرض وهو رداء القضاة والمحامين التقليدي وتشابهها بين شخوص العرض عن مدى المسخ الداخلي الذي تعيشه الشخصيات فكلهم واحد متشابهون في تبنيهم للفساد والعلاقات الاجتماعية السالبة.


شاطارا.. بوليفونية الجندر

تناقش المسرحية المغربية (شاطارا) معاناة نساء مهاجرات على وفق طرح دراما تورجي يلتقي فيه الغناء باللغة الشعرية والاداء الجسدي والسينوغرافيا الديناميكية عبر انموذج لثلاث نسوة يسردن معاناة وانتظارات المرأة المهاجرة (شاني) و(طاليا) و(ربيعة) هي أسماء النسوة الثلاث التي اختصرها مخرج العمل بعنوان (شا طارا) فالأولى آتية من دول جنوب الصحراء من أم افريقية وأب مغربي مرفوضة من طرف المجتمعين هاجرت الى اوروبا للبحث عن والدها وهويتها، أما الثانية (طاليا) المشرقية فقد تم تزويجها غصبا عنها وهي قاصر وظل قلبها متعلقا بالصبي الذي أحبته في صباها وبسبب ويلات الحرب والصراعات القبليّة هربت والتقت حبيبها وقررا الهجرة الى الضفة الأخرى للبحث عن مستقبل جديد وللأسف تبتلعه الأمواج في الوقت الذي وقعت فيه المغربيّة (ربيعة) بالمحظور بعد تنصل حبيبها من مسؤولية طفله الذي تحمله وقررت الهجرة إلى أرض أخرى وفي رحلتها تجهض الطفل وتجهض حلمها، ينتصر العرض شاطارا للمرأة المهاجرة بمواقفها الفلسفيّة ومعاناتها الجسديّة والنفسيّة ولجأ المخرج (أمين ناسور) إلى قصائد (محمود درويش) و (أحمد جندول) والى مقاطع غنائية في عزف حي وتوظيف تقنية الفيديو لبث لوحات ومشاهد توضيحيّة تُسهل عملية التواصل بين الممثلات والجمهور.


ميت مات... في تقويض الانتظار

بين شخصيتي المولى الشرقي وغودو الغربي تقف مسرحية (ميت مات) ضمن مواضعات وأنساق المسرح الساكن مسرح البلجيكي (مترلنك) لما فيها من تثوير منطق اللا وعي والذاكرة وانعدام التواصل بين الشخصيات وثيمة الانتظار التي قوّضها ونقدها الدراماتورج والمؤلف علي عبد النبي الزيدي، وذلك بإحالة الشخصيات تأويليَّاً الى المستقبل بوصف الانتظار فكرة سلبية في المنظور المعاصر خصوصا عندما ترتبط بالحالة السياسية لبلاد ينخرها الفساد في جميع مفاصلها، إذن هي الدعوة الى الحركة والتأهب لا الانتظار والاستكانة وتم بذلك تقويض المبنى الديني شرقية وغربية المبني على فكرة انتظار المخلص.. هذا ما باح به العرض في ضوء مصطبتي انتظار وكائنات بشريّة محنّطة مرميَّة على قارعة الزمن منذ آلاف السنين تستنطق بصعوبة بالغة ما مرَّ بها من أهوال وماسٍ ومحنٍ في متحف للتاريخ الطبيعي، جاء أداء الممثلين محسن خزعل ومخلد العبيدي منسجما مع حالة الشخصيات في سكونها واغترابها وهدأتها التي تعتمل داخلها براكين وثورات احتجاجيّة غاضبة، لعناً للماضي وتأبيناً له بأصوات واضحة وأداءات جليلة استطاعت أن تأخذنا إلى مهارات الكتابة الأدائيّة بجزئيات وهوامش تداوليّة غذت المنطق الميتافيزيقي والفنتازي للعرض بمنطق واقعي بمشهديات لف السيكارة وأكل الخبز اليابس ومحاولة السقوط من المصطبة، كلها أفعال إخراجية كسرت المنطق الرمزي للعرض باتجاه المنطق الواقعي.. استقبل العرض بحفاوة بالغة من لدن الجمهور العربي إلا أن توقيت عرضه في الساعة الرابعة عصراً لم يكن ملائما فحضره جمهور محدود.


بريندا وفورة الاستعراض المسرحي

نهض العرض المسرحي الشبابي المغربي (بريندا) تأليف وإخراج (أحمد أمين الساهل) على الاداء التمثيلي الجماعي (الطاقمي) والعرض جاء نتاجا لورشة كتابية لفريق المسرحية من خريجي المعهد العالي للتكوين المسرحي والتنشيط الثقافي في الرباط متكئا على نص غنائي من قطعة من موسيقى الراب الشعبية للمغني الامريكي (توباك شاكور) الذي تعرض للقتل عام 1996 وكانت أغانيه تعبر عن غضبه من القضايا الاجتماعية والسياسية كالعنصرية ضد السود والمسلمين والحرب في الشرق الأوسط والظلم واضطهاد الشعوب الفقيرة، تناول العرض في ثيمته قضايا المرأة بمختلف أشكالها ومنها التغرير بالقاصرات والتحرش والظروف السسيو ثقافية القاسية التي تجعل من بعض الفتيات فريسة للوقوع فيما لا يحمد عقباه.. مزج العرض بين الفرجة المسرحية وموسيقى الراب و (الهيب هوب) واستهل العرض بكسر الجدار الرابع وخلق تشاركية وتواصلية حية ما بين العرض والمتلقي وتقديم أداء متكامل بوصفه وحدة واحدة بحيث امست البطولة جماعية، والمسرحية شارك فيها أربعة ممثلين وأربع ممثلات يلبسن قناع شخصية واحدة لفتاة جرى التغرير بها من اقرب الناس اليها، كما طرحنَ من خلالها صوراً عدة لما تتعرض له الفتيات من انتهاكات ولعب الثراء السينوغرافي دوراً مهماً في المحمولات الدلالية للنص البصري، أكان على صعيد الأزياء أو الاضاءة أو الديكور والنسق السمعي في النص الموسيقي الاحتفالي، فضلاً عن الحوارات والمنولوجات والأغاني والشعر، علاوة على تنوع مستويات النص اللفظية بين الدارجة المغربية والفرنسية والعربية الفصحى.


أمل.. والنهاية المتفائلة

في اليوم الأخير للمهرجان قدمت المسرحية العراقية "أمل" تأليف وإخراج جواد الأسدي واكتظت قاعة محمد زفزاف للعروض المسرحية بالجمهور، منذ وقت مبكر لما للأسدي من تأثير عميق في تاريخ المسرح العربي الحديث بعروضه الاشكالية الصادمة والمبتكرة حيث قدم المخرج المؤلف والسينوغراف الاسدي قراءة جديدة في فضاء العلبة الايطالي بعد ان قدم العرض في بغداد داخل بيئة البيت البغدادي (منتدى المسرح) وبتنفيذ موفق لفرضيته في المسرح البيئي حيث (نزيز) الماء والمكتبة الآيلة للسقوط والجو المأساوي الكابي والخانق الذي انعكس تأثيره على الأداء التمثيلي المكبوت والمحتقن للممثل (حيدر جمعة) الذي اضطلع بدور المثقف والاداء التقني اللافت للممثلة (رضاب احمد) بدور الزوجة (أمل) اللذين استقبل أداؤهما بحفاوة وترحيب غامر من قبل المتلقي العربي لما قدماه من اداء تقمصي صادق، والمعالجة الجريئة والمتفائلة لنهاية العرض في عودة أمل لبيتها بعد ان غادرته ورفضها اسقاط جنينها على اصوات مونولوج حلم زوجها وميعاده بحياة حرة سعيدة.


رحل النهار.. استعادة للشعر في المسرح

وضمَّ فضاء مسرح محمد الخامس آخر عروض المهرجان وهي المسرحيّة الإماراتيّة (رحل النهار) تأليف اسماعيل عبد الله وإخراج محمد العامري التي اعتبرها نقلة نوعية في مسرح الخليج العربي لما احتوته من حداثة وجدة على مستوى النص والإخراج والتقنيات وقدرة المؤلف (عبد الله) على توظيف الشعر في المسرح وتحويله من الغنائية الرومانسية الى الغنائية الدرامية بإطار ملحمي في ضوء انتخابه القصدي لقصائد السياب ومحمود درويش وسميح القاسم والصغير أولاد أحمد وتوفيق زياد وخلف الخلف وسعي المؤلف للبحث عن مآلات جديدة للتعبير يتيحها النسق الدرامي الكامن في شعرية هؤلاء الشعراء وايجاد المعادل الموضوعي الذي دعا اليه (اليوت) في نظريته من خلال التعالق مع القضايا السياسية والاجتماعية من منظورٍ متعالٍ ينفض الغبار عن المسكوت عنه والمقموع من ثنائيات صراعية تتمثل بـ الحاكم/ المحكوم، الاستسلام/ الثورة، الحياة/ الموت، الصمت/ الصراخ.. وجاءت قراءة المخرج محمد العامري دقيقة في توظيف الملحمي في المسرح في ضوء استعانته بممثلين أكفاء في لفظ الشعر يمتلكون حساسيات عالية في التأثير بالمتلقي... وقدرته الفائقة على ادارة الجوقة المسرحية والخروج منها بتشكيلات وتكوينات بصرية جمالية عالية، أخيراً في عمل العامري رجاحة امتلاء بصري ولوحات مزدحمة واستدعاء تكنولوجي وتقني ولعب ممثلين تشي بجوهر تعبيري فني للفوضى ودلالات فكرية وفلسفية تجعلنا ننظر متوارين من ثقب الباب لهذا العالم الهائج المائج الذي لا نهاية لاضطرابه.