حافظ الدّروبي.. رّسام بغداد

ثقافة 2023/01/28
...

 علي إبراهـيم الدليمي 


حافظ الدروبي، فنان تشكيلي من طراز (انطباعي بغدادي) خاص وخالص، حتى النخاع جداً، لم يخضع لأيّة تأثيرات فكريّة أو فنيّة خارجيّة، طوال مسيرته الإبداعيّة، حتى وهو في أثناء دراسته الأكاديميّة خارج العراق، صحيح قد أبهرته فنيّاً نوعاً ما في بدايته المدرستان الإيطالية والانكليزية.. ولكنه أسس (إتجاهه) الانطباعي العراقي الخاص به.

الدروبي، رسّام حمل (انطباعيات بغداد) الاجتماعية الشاملة، قبل انطباعياته التشكيليَّة الملوَّنة.. في ضميره وبصيرته وفكره، وحفظ ذكريَّات طفولته وعفويته التي نشأ عليها في مدينته، وما أدراك ما بغداد، ولا غيرها من مدينة تحلى في عينيه.. فهي نشوب صباه وعالمه الكبير ومحيطه الحالم والمعاصر والتراث والتاريخ، حيث شناشيل بيوتاتها التراثية القديمة وأسواقها، ولألأة مآذنها الشامخة التي تعانق خيوط الشمس وقباب مساجدها المتميزة، وتراص أزقتها الضيقة، وأسواقها الزاخرة، وألعابها وتقاليدها الاجتماعية الجميلة، وأزياؤها الفلكلورية الشعبية، وعبق بساتينها المثمرة ومروجها الزاهي على ضواحيها... لينهل من ثمَّ من كل هذه الدافعيات الإبداعيّة الواقعيّة.. ويقدمها كـ (نصوص) رؤيوية بمشاهد تشكيلية متميزة.. لا تزال خالدة حتى الآن، وهل هنالك أجمل من (النصوص) الخيالية الرائعة لقصص ألف ليلة وليلة، والسندباد وعلاء الدين.. في تاريخ بغداد؟ إنَّه الالتزام الصارم بولائه العميق لبغداد مرتع طفولته ومرجع ذكرياته.

لوحاته واقعيَّة بغداديَّة رصينة.. يعشقها ويتآلف معها المتلقي، لا تقبل التأويل أبداً، حتى وهو يُجرّب الرسم (التكعيبي) الغربي، في فترة ما، لم يخدش حياء (موضوعاته) المحافظة، أو يجازف بحرارة ألوانه الشرقية البارزة.. التي كانت ألوانه بمثابة احتفائيات مع الرموز البغداديّة الشامخة.

بغداد، أعتزت بوفاء ابنها البار حافظ الدروبي، حينما خلّدته ووسمته باسمها (رسَّام المدينة) لأنَّه حمّل لوحاته (صبغة) بغداد التاريخ والتراث والمستقبل.. أما فِهم الموضوع الاجتماعي لدى الفنان حافظ الدروبي، فهو بمثابة الباحث المتخصص، الذي لم يخرج من محيط مدينته.. بل وثقها من خلال رصد جوانب الحياة العامة في المجتمع البغدادي ومحيطه الشامل، وقد استطاع أن يوظفها ويستلهمها بشكل مدروس ودقيق.. ورغم عصرنة المدينة.. ظلت بغداد القديمة عشقه الأزلي، وهويته الشخصيَّة والفنيَّة التي تحمل في طياتها وثناياها الأصالة الإنسانيَّة الصحيحة، الذي يستلهم منها موضوعاته الخالدة.

والفنان حافظ حسن الدروبي، مواليد 1914 بغداد، محلة الصدريَّة، درس في الكتاتيب في جامع الألفي، فتح عينيه على والدته وهي تمارس فن التطريز الزخرفي اليدوي، الذي طبع ألوانه وجماليته في مخيلته الشفيفة، وقد مارس في طفولته العديد من الهوايات، من لعبة القدم والتمثيل والعزف على العود فضلاً عن الرسم، وفي مدرسة العوينة عام 1923، إلتقى بأستاذه الأول (عبد الكريم محمود) وهو من أوائل الرسامين في العراق، ليتعلم على يده أبجدية فن الرسم الصحيح، وتشاء الصدف الجميلة كذلك أن يلتقي بمعلمه الثاني (شوكت الخفاف أو الرسام) وهو أيضاً من (الأوائل) وعن طريقه تابع وتآلف مع أخبار عبد القادر الرسام، وغيره من رواد الفن التشكيلي العراقي. 

وفي المرحلة المتوسطة، أسهم الدروبي، لأول مرة في «المعرض الصناعي الزراعي»، وهو أول معرض عام 1931 حيث يتعرف خلاله على فائق حسن وجواد سليم، وفي عام 1932 أقام أول معرض شخصي، وكان آنذاك يمارس تدريس الرياضة في الابتدائية، وفي عام 1936، أقام معرضاً شخصياً في نادي المعلمين في منطقة المربعة، وقد ضم عشرين عملاً من مختلف المواضيع التي سجل فيها بعضا من المناظر الطبيعية والبيئة، وأثار معرضه اهتمام رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، الذي على أثره أوفده عام 1937، مع زميله عطا صبري في بعثة فنيَّة إلى إيطاليا للدراسة في أكاديمية روما الملكية، ويدخل محترف الفنان الإيطالي (كارلو سيفيرو)، ثم مرسم الفنان (لينيسكي) بصحبة جواد سليم، الذي جاء للدراسة أيضاً في روما، فيتعرف من خلاله على أصول الفن الغربي وتقاليد المدرسة الإيطالية وتراث عصر النهضة، ولكن بعد ثلاث سنوات وفي الصف المنتهي، اشتعل أوار الحرب العالمية الثانية، التي اغتالت طموحه في إكمال دراسته، حيث رجع إلى بغداد، وتعيّن في متحف الآثار العراقية مع الأستاذ ساطع الحصري، حيث كان يرسم للمتحف فقط، وذلك لشح مواد الرسم لظروف الحرب، وكان بصحبته كل من الفنانين: جواد سليم وعطا صبري وجميل حمودي وعيسى حنا وخالد الرحال، تحت إشراف الفنان أكرم شكري. بعدها عُيِّنَ معلماً للفن في مدرسة (الميتم الإسلامي)، ثم ينتقل مدرسا في دار المعلمين الريفيّة، عام 1941، عام 1939 وضع مع فائق حسن وعطا صبري (مناهج) التدريس لمعهد الفنون الجميلة، الذي افتتح فرعاً للرسم. أسس مع زملائه جمعية أصدقاء الفن، وشارك في معارضها (1941، 1942، 1943، 1946)، أول من أسس (مرسم الحر) في العراق عام 1942.. في كلية الآداب والعلوم.. سمّاه مرسم حافظ الدروبي، على طراز المراسم الأوربيّة، والذي كان ملتقىً فكرياً وفنياً للكثير من أساتذة الكلية وللمثقفين من خارج الكلية، واستمر في هذه التجربة في التعليم لبضعة أشهر، وبسبب ظروف مادية صعبة، توقف المرسم، ولكنه أعيد افتتاحه مرة أخرى عام 1945.. ليولد من رحم هذا (المرسم)، الذي توقف نهائياً، تأسيس (جماعة الانطباعيين العراقيين)، ولكن للأسف انفرط عقد هذه الجماعة عام 1968. 

شارك في معرض ابن سينا الذي أقيم في المعهد الثقافي البريطاني ببغداد عام 1952، وفي العام نفسه.. أسهم مع تسعة فنانين بإقامة معرض للفن العراقي المعاصر في بيروت عام 1965، أقام معرضاً شخصياً عام 1951، على قاعة متحف الأزياء القديم، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سافر إلى انكلترا لإتمام الدراسة الفنيَّة في كلية (كولد سميت) التابعة لجامعة لندن عام 1946، من ضمن بعثة ضمت كلا من جواد سليم وعطا صبري، حيث حاز الجائزة الثانية في معرض الكلية، عام 1950، أنهى دراسته وحصل على شهادة الدبلوم الوطني في التصميم وشهادة «سرتفكا» في الرسم الزيتي والشهادة العالية في الفن والحِرفية، ليتعين مدرساً للرسم في كلية الآداب والعلوم.. حتى عام 1967، أقام معرضاً مشتركاً مع فنانين اثنين عام 1960، عام 1964 ترأس جمعية الفنانين التشكيليين، عام 1972، ترأس اللجنة الوطنية للفنون التشكيلية المنبثقة عن اليونسكو، عام 1972.

وفي تاريخ 17/1/1980، كرّم من قبل وزارة الثقافة والإعلام بمعرض استعادي شامل لأعماله، على قاعة (كولبنكيان) عام 1982، أحيل على التقاعد، من مهنة التدريس التي أمضى فيها ما يقارب الخمسين عاماً مبتدأ بمدرس لمادة الرياضة في المدارس الإبتدائية إلى مدرس للرسم في كلية الآداب والعلوم إلى عميد بالوكالة في العام 1967، في أكاديميَّة الفنون الجميلة، ومن ثم أصبح رئيساً لقسم الفنون التشكيليَّة، وأخيراً أستاذاً لمادة الرسم في الأكاديميَّة، فضلاً عن مشاركته في جميع المعارض الوطنيَّة التي أقيمت خارج العراق، عضو جمعية الفنانين العراقيين، وجمعية التشكيليين، ونقابة الفنانين العراقيين، توفي في بغداد، يوم 26/1/1991، بعدما أمضى مدة طويلة في لندن لغرض العلاج.. أي مع بداية العدوان الأمريكي على بغداد، وكأنّه يقول لا شيء يجعلني أن أعيش بعد الآن.. من دون (بغدادنا) القديمة.. بل حتى بيته.. الذي أراده أن يصبح متحفاً للفن.. آل إلى دائرة رسمية مدججة بالسلاح..!.