خدعة الهايكو.. كيفٌ تالفٌ وكمٌّ ضائع

ثقافة 2023/01/29
...

 د. نصير جابر 

يحاول العقل العربي الثقافي، الذرائعي جداً، والمستهلك بطبيعته أن يسوغ تقبّله لكل ما يصله من منتجات ثقافيّة أجنبيّة، بغض النظر عن مدى صلاحيتها، أو تناغمها مع الواقع المحلي، أو حتى أصالتها في موطنها وجديتها، وحدودها عندهم. ومن ثمّ مشروعية استهلاكها هنا من دون ضرر.. يسوغ ذلك تحت ذريعة أنها منتجات إنسانيّة عامة، كونيّة.. يمكن أن تزدهر في كل  بيئة، وهو بذلك ينسى أو يتناسى أن تلك المنتجات (تحتقب) هوية الفرد وتعرّش ذاتيتها حول خصال المحليَّة والموروث الخاص والمخيال الجمعي لتلك البيئة.. ومنها تأخذ عالميتها.. لذا حينما تقلد وتستنسخ تصبح باردة باهتة تافهة غير مقنعة ومنسلخة عن عالمها الحاضن لها.

 لذا رَحَّب جداً -هذا العقل- بفن الهايكو الياباني بوصفه تقليعة جديدة رائجة. وكنت أتوقع أنّ هذا الفن التلفيقي الساذج في نسخته العربية والعراقية سيجد رواجاً كبيراً لأنّه باب سهل ميسور سيفتحُ لآلاف المتشاعرين الباحثين عن وجاهة الشعر وفخامة التسمية: (شاعر، كاتب). فهو مجرّد بضع كلمات يمكن أن (تلطشها) من ترجمة لفيلم أجنبي أو من حوار في رواية أو حتى من  جدار مهمل عليه كتابات لمراهقين يعبثون ببراءة، نعم، هي تلك الحقيقة الموجعة التي سيكتشفها كلّ من يتصفّح بتمعن  أغلب مجاميع الهايكو العراقيّة والعربيّة، أو يتابع منشوراتهم السمجة على وسائل التواصل.

فالهايكو بشروطه اليابانيّة المتشدّدة وثيمته الرئيسة التي لو بُدّلت لتبدّل هيكله البنيوي كله وصار شيئا آخر لا ينتمي لهذا الفن أبداً. هذا الهايكو هو المثال الصارخ على العقل النقّال المُستعير الذي ينقل ما يجده من دون تمحيص طمعاً في ولوج أبواب الشهرة. خاصة بعد شيوع مواقع التواصل والمنتديات الالكترونية التي تروّج  للتافهة وتبرّز أسماء ضحلة وتمنح الشهادات الأدبيّة والصفات التي لها أوّل وليس لها آخر، وكأنّها تتعمّد قتل السمة السامية للأدب وتحويله إلى جثّة هامدة ينهشها دود التشابه والتكرار والعفونة.

إنَّ التوغل الكبير الذي تجيده مواقع التواصل بحركيتها الإفعوانيّة التي تمتدُّ في المجالات كلها، يجعل منها خطرة جداً على (هيبة) الثقافة الرسميَّة، فهي وإن كانت لا تنافس هذه الثقافة، لكنها تزعزع جمهورها، وتحاول أن تقنعه ببضاعة كاسدة رديئة جداً، ومن ثمّ سيدبُّ الخراب - هكذا إن لم يكن قد دبَّ فعلا- في أذواق الناس وشوش عليهم، ولعل ظاهرة الهايكو واحدة من أبرز العلامات على هذا الخراب، والعجيب أنك حينما تسأل من يتعاطون مع هذا الحيز.. ستجد تسويغات عن الجمهور الذي يعلّق بمنتهى الإعجاب وعن المسابقات التي تستقطب المئات من المتابعين وعن المجاميع التي تطبع وحفلات التوقيع التي تغطى بعضها من قبل الفضائيات.. وحين تتعب نفسك وتتابع ما ينشر ستجده مجرّد تدوير لنفايات لغويّة وسطحيّة ما بعدها

سطحيّة.  

فأغلب صفحات أهل الهايكو تعرض «ضحالة ما بعدها ضحالة»، وفيها استسهال غريب وتعدٍ على كل نظام قارّ وأصول أدبية رصينة، فلا نظام للإيقاع أو القافية أو الوزن أو حتى ضابط لغوي منطقي ينسق انتقال الدلالات.. فضلاً عن تخبط واضح في فهم (كينونة) المنتج الأصلية مع محاولة تعريبه بذريعة أنه موجود في التراث العربي، فمرة هو يرجع إلى التوقيعات أو البيت الواحد أو الومضة.. وغيرها من التخريجات التي يتصورونها آمنة.

وحينما تسألهم هل الهايكو: (شعر.. نثر.. جنس أدبي منفصل).. ستكون الإجابات مختلفة وتصبّ في  مشارب شتى، وكأنَّ الحداثة التي يدعيها بعضهم مجرّد تخبط في أنساق غير متوازنة.. مجرّد دوران.. من أجل الشهرة.. الشهرة التي لا وجود لها في الأدب أصلاً.

فما الحل؟ الحل الناجع الذي يبعد هؤلاء عن سماء الأدب الصافية، هل هو قرارات صارمة، أم نقد بنّاء أم تثقيف معرفي يعرّف المتلقي الفرق الدقيق بين الشعر والأشياء التي تشبهه. ولكنها لا تنتمي إليه إطلاقا.

فالحقيقة أن حرباً غير معلنة بين مدعي الثقافة وبين أهلها الأصلاء.. بين الحقيقي والسطحي، بين النخبوي المنزوي.. والسوقي المبتذل.. حرب غير منصفة، فهناك جمهور كبير يقف مع هؤلاء.. ونخبة صغيرة تقف ضدهم.. هؤلاء عندهم الفضاء المفتوح بأبوابه المشرعة كلها.. وهؤلاء عندهم الباب نفسه ولكن بتفاعل أقل.. تلك الحرب لا تبدو أنّ لها نهاية وشيكة، ولكن ما أجده مخيفاً أحيانا هو تفاعل الأدباء الكبار مع  مغريات «السوشل ميديا» طمعاً منهم في خلق جمهور كبير، جمهور يريد أن يكون كلّه شعراء.. وعندهم منتوجات مطبوعة. وليس أسهل من الهايكو الذي تمَّ جرّه من اليابان إلى منتديات «الفيسبوك» لتكتبه فلانة وعلانة وفلان وعلان، ومن ثمّ تحول ذلك الفن الراقي، ونزل من قمة ساكنة شامخة إلى صخب (اللايكات) و(مذهل) و(بديع) تلك المجانية التي تأكل حياتنا الثقافيّة بمجاملات فجّة تجعل الأشياء تتساوى، إذ لا قيمة لشيء في زمن (أعجبني) التي تطوّرت من كف أزرق إلى قلب أحمر وعبارات رنّانة توهم من يمرّ أنّها قيلت في بناء أدبي حقيقي، فلما ترفع رأسك لتقرأ ستجد.. هايكو.. أو شيئاً يشبه الهايكو.