رحلة بناء المفهوم

ثقافة 2023/01/29
...

 حازم رعد 


عملية نحت المفهوم ليست بالسهلة اليسيرة كما قد يتصورها البعض ممن لا عناية له بهذه الصنعة، إذ سمعت من البعض أن باستطاعته انتاج كم من المفاهيم وأنّها ماركة مسجلة باسمه، وكأنّما يصور لنا أن العملية أن يلوك الالفاظ بفيه ليخرج لنا مفهوما يحكي واقعاً عن أشياء وتمثلات يشار لها من خلال ذلك الاجتراح الذي صنعه.

فالأمر ليس كذلك تماماً، فهذه الصناعة من الصعوبة بمكان أن تفهم بهذا الشكل “التسطيحي” فالمفهوم يمر بمراحل ولادية عدة “أستطيع تسميتها بالعوالم التي يمر فيها المفهوم حتى يصل إلى مرحلة الظهور ويكسب صفة الحقيقة وهي حكايته عن مصاديقه”. 

أشار سقراط ذات مرة إلى شيء يشبه ذلك فهو يقول إنّه تعلم صنعة توليد الأفكار من أمه “التي عملت كقابلة تولد النساء الاثينيات”، فهو يفعل مثلها، ولكن مع توليد الأفكار من خلال عملية طرح الأسئلة واستشفاف إجابتها، ثم تعقيدها مرة أخرى بطرح إشكالي يرغب من ورائه بإجابات عديدة، حتى تتم عملية التوليد تلك عن مخاضها بمولود فكري أو مفاهيمي ينطبق مع الواقع ويحكيه بصدق تام أو قريب منه”.

إنَّ أول ما يمرُّ به الفيلسوف أو المفكر لإنتاج مفهوم ما، هو أن يعاين المشكلة في الواقع “وهي في طور الممارسة آخذةً بالنمو” ولا يهم عن أي مجال تخصصي، قد تمخضت فقد تكون الفكرة اجتماعية أو سياسية أو سيكولوجية أو حتى تطبيقية، ولكن آثارها تنعكس على الإنسان وعلى حياته وتؤثر فيها.

إنَّ عملية المعاينة تلك مهمة فهي تسهم في تشخيص السبب الأصلي الذي أسهم في انبعاث الفكرة والوقوف عليها، وهذا يعني متابعة طريقة نموها من خلال ممارستها والتفاعل معها اجتماعياً (لقد عزا افلاطون العشوائيّة التي مُنِيَ بها شعب اثينا وطريقة الممارسات الغوغائية التي أدت إلى إعدام أستاذه سقراط إلى الديمقراطية وكيف أن هذه الفكرة والطريقة في الحكم أدت إلى إعلاء الأصوات الجاهلة والمأزومة، مما افاد بوقوع جريمة ظلم لفيلسوف كبير وإعدامه) من هذا نفهم أن متابعة الأفكار ومعاينتها يوفر لنا خارطة حياة وعمل تلك الفكرة ومدى تأثيرها في حياة الناس وما يمكن أن تفيء به عليهم وأن هذه الأفكار التي إذا ما استشرت وانتشرت من الممكن أن تنتج لنا مفهوماً أما يعالجها إذا كانت صعوبة أو يحلها ويجيب عنها إذا كانت اشكالية أو يكون المفهوم مقابلا ذهنيا يصور لنا سيرتها الذاتية التي مرت بها “اي تاريخها”. 

بعد ذلك نعاين بدقة طريقة عمل الفكرة وشدة تفاعل الناس معها حتى نكوّن فكرة كاملة عمّا سيطرح من تفسيرات واجابات أو مقابلات لتلك الفكرة التي هي قد تكون ممارسة أو حالة اعتاد الناس عليها أو ظاهرة نتجت عن تفاعل جماعة من البشر. 

إنَّ من أهم ما يفترض تحققه، كأرضية يفترشها ناحت المفهوم للقيام بصناعته هو وجود اشتغال حقيقي للمفهوم بالواقع بمعنى أحداث تجري على صقع الواقع، وليس مجرد افتراضات يحتمل لها مجموعة اقتراحات، فقوة المفهوم من صدق تحقق مصاديقه في الواقع على شكل أحداث ووقائع وممارسات وما إلى ذلك، وثانياً وجود مجموعة عناصر تشكل تمثلات ذلك المفهوم تتفاعل فيما بينها على وفق القواعد التي نجد أن المفهوم يسير وفقها.

وأن يؤخذ بعين الاعتبار الظروف الراهنة والاعتبارات الضاغطة اجتماعياً ودينياً والتي تتأثر فيها مصاديق المفهوم وأساساً تكون تلك المصاديق موضوع انطباق المفهوم ومحور ارتكازه وتمثله على أرض الواقع. 

إنَّ الإمكانية لإبداع المفهوم تتوقف على اشتراطات مهمة أبرزها أن يكون حاكياً عن تاريخية حدث ما حتى لا يكون المفهوم من قبيل الترف الفكري الذي ينعم به بعض المثاليين المترفعين عن الواقع.

وكذلك فإن المفهوم بحاجة إلى تراتبيَّة وانتظام للعناصر المكونة له فالنتائج تتبع أخس المقدمات كما يقال في المنطق، فعليه لا بدَّ من ارتكاز المفهوم على مقدمات معرفية سليمة، وأن يكون هناك اتساق داخل بنية المفهوم، فرغم أنّه مجاز مكثف يحكي مجموعة من التمثلات والمصاديق إلّا أنّ حكايته تلك عن الواقع ينبغي أن تكون مطابقة بمعنى أن الفكرة تصدق على الشيء في الواقع وبذلك تكون المقدمات سليمة والنتائج مشابهة.

وأشياء أخرى هي خاصة الفلسفة وعمل الفلاسفة، فهم وحدهم المعنيون بهذه الصناعة فقد عبر “جيل دلوز” عن ذلك بقوله (الفلسفة إبداع للمفاهيم) ولعل هذا هو الاشتغال الخاص لها من دون سواها من العلوم والمجالات المعرفيَّة. 

لقد ذكرنا سقراط في أعلى المقال والذي يعد أهم صناع الحدود الماهوية “المفاهيم” التي تعرف بالأشياء حتى أنه كان يصف تلك العملية “انتاج الأفكار” كما تصنع القابلة أثناء توليد الأطفال من النساء لصعوبتها ودقتها وأهمية ما ستولده.