ثقافة الانتماء

ثقافة 2023/01/30
...

  أ د. باسم الأعسم


إنَّ الانتماء هو التعبير الناصع عن الضمير الحي عندما يتحول إلى موقف إنساني جليل، يُعزز كرامة الفرد وسيادة الوطن، وفي الجانب الآخر فإنّه يمثل الوجود القيمي، والالتزام الأخلاقي، الذي يعبر عن جوهريَّة العلاقة بين الذات والآخر على المستويات كافة، فيتأسس الكيان الروحي والحسِّي معاً، وتتضح معطياتهما بشكل جلي، وتلك هي الصورة الواقعيَّة المعبّرة عن ثقافة الانتماء بأشكاله كافة. 

وبهذا الصدد أقول: إنَّ كلَّ شيء إيجابي مصدره الانتماء، فالثمار الناضجة هي نتائج انتماء الفلاح لأرضه وعمله فيها، مثلما هي التآليف الأدبيّة كالروايات والقصص والمسرحيات والقصائد والسمفونيات، والملاحم واللوحات، فإنّها تترجم انتماء المبدع إلى حقول الإبداع، شريطة توفره على اشتراطات الخلق الإبداعي التي ترسخ ملامح الانتماء الحقيقي بين المبدع وإبداعه، كما هي الحال في صورة بتهوفن وموسيقاه، وماركيز ورواياته، ومايكل أنجلو ولوحاته، وشكسبير ومسرحياته، والمتنبي وأشعاره.

 وقد يحدث العكس عندما ينتفي الانتماء ويتلاشى، فالتدريسي الذي لاينتمي إلى المؤسسة التربوية على اختلاف مراحلها، فسوف ينعكس ذلك الخرق بنحو سلبي على مفردات التعليم وجودته، مثلما هو العامل والسياسي الذي لا ينتمي إلى شعبه ووطنه، فسيعم الخراب فيهما إن عاجلاً أم آجلاً، وتلك من البديهيات التي لا تحتمل التفسير والتأويل.

لذلك، وعلى وفق المعطيات الواقعية، نجد أن الانتماء المعمد بالوعي والحس الإنساني، والشرف النبيل، يعد منطلقاً لتعزيز الكرامة الوطنية والإنسانية وانعكاساتهما على سيادة الوطن، إذ أن ثقافة الانتماء تحول من دون إنحراف السلوك الإنساني والموقف الفكري، والعكس صحيح جداً.لذلك، عندما سُئل غاندي متى يفقد الإنسان شرفه؟ أجاب: عندما يأكل من خيرات بلده وينتمي إلى بلد آخر، والمعيار هنا هو صدق الانتماء من عدمه.

وبحسب هذا الرأي السديد نجد ان ثقافة الانتماء يجب ان تتجذر لدى الناس، منذ الطفولة كل حسب عمله وعنوانه وثقافته، كيما تتحصّن الذات الإنسانيّة، فتغدو عصيَّة على الضعف والانهيار أمام المغريات في جميع مناحي الحياة، تماماً مثل الأدباء والفنانين والكتاب والعسكريين الذين استماتوا في الدفاع عن أوطانهم وشعوبهم من فرط انتمائهم الصميمي الذي يجعلهم يضحون ويتغنون بأوطانهم، على غرار ما تغنى السياب بالعراق عندما قال:  

الشمس أجمل في بلادي

 من سواها والظلام

 حتى الظلام

 هناك أجمل فهو يحتضن العراق.

 وكثير سواه ترنّموا بالعراق عبر مواقفهم وكتاباتهم وقصائدهم ومنهم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي ألّف (54) ديواناً شعريّاً في حب العراق وبغداد، ولعل قصيدة (سفر التكوين) خير دالة على ما نقول، ومثله الجواهري في (دجلة الخير) وحسين القاصد وموفق محمد وكاظم الحجاج وعارف الساعدي، وياس السعيدي، ووليد حسين، وآخرون.

وتشكل الشخصيات الممتدة جذورها في أعماق تربة الوطن، مثلا أعلى لثقافة الانتماء وسلامة النهج الوطني والإنساني، فيعول عليها في البناء والأعمار بحيث تغدو قدوة لسواها، لان البلدان تنهض بالقدوات، ومن دون ذلك فلا خيار سوى السير إلى الخلف والعجز عن اللحاق بركب الأمم الناهضة.

إن الشخصيات المحصنة بثقافة الانتماء ذات التوجه الإنساني المجرد من النزاعات القبلية والثأرية والدوافع الطائفية يعول عليها في بناء الأوطان وسعادة الإنسان وتحقيق الحرية والأمان، لأنّها تؤثر مصلحة الوطن والناس، على نوازع النفس الأمارة بالسوء وثمة وسائط فكريّة وفنيّة وجماليّة تعد خير سبيل لتعزيز مسألة الانتماء كالسياسة المبدئية والفن الملتزم، والثقافة التقدمية، والرياضة والمسرح إذ إن الإنسان بحاجة إلى توفر بواعث الانتماء ومنها الثقافة والآداب والفنون، إذا لم نسمع ان أديباً أو فناناً أو مثقفاً قد خان وطنه، نعم قد يتغرّب ويهاجر إلى أقاصي الدنيا، لكن انتماءه لوطنه يلازمه كظله، فهذا الشاعر الأفريقي الأمريكي (لانغستون هيوز) يذكر في سيرته بعنوان (البحر الكبير) إن ثمة شعورا بالابتهاج قد تملكه عندما ترك نيويورك متجهاً إلى أفريقيا بعد أن ألقى كتبه في البحر فكان ذلك أشبه بإلقاء مليون حجر كانت تجثم على قلبه عندما كان في طريقه إلى قارته الأم أفريقيا، أما المناضل (تشي جيفارا) وللتعبير عن صدق انتمائه لوطنه قال: لكل الناس وطن يعيشون فيه، إلَا نحن فلنا وطن يعيش فينا إنّها قضية مظفر النواب وكل الأحرار، الذين دفعوا حياتهم ثمناً لانتمائهم المشرف.

ولقد جسّد الرياضيون والفنانون في (خليجي25) أسمى مراتب الانتماء للوطن فقدموا منجزاً أسر الجميع وأمتعهم فمنهم من قبل الأرض، ومنهم من تلفع بالعلم العراقي، وآخر ضحى بقوت عمله ورزقه اكراماً للضيوف، وتلك صور رائعة طالما عرف بها العراقييون المتشربون بثقافة

الانتماء