جان لوك غودار: أكتب المقالات في شكل الروايات

ثقافة 2023/01/30
...

  ترجمة: حيّان الغربيّ

لم يتوان جان لوك غودار، المخرج الذي شرّع أبواباً جديدة أمام السينما، عن تجاهل تقاليد صناعة الأفلام وأعرافها، مما أدى إلى تغييرات جذرية مذهلة، كان غودار واحداً من أبرز الشخصيات التي قوبلت بردود فعل متناقضة على صعيد السينما العالمية، فتارة هو مخرج موقر، وطوراً هو على العكس من ذلك. تمتع الكاتب -المخرج الفرنسي-السويسري، الذي توفي في 13 سبتمبر/ أيلول الماضي عن عمر ناهز 91 عاماً، بمعرفة ومحبة عميقتين لعمل غيره من المخرجين. ومع ذلك، ذهب غودار بعيداً في تجريب طرقٍ إخراجية مبتكرة لم يعرفها هذا المجال من قبل.

بدأ هذا الرجل الاستثنائي مسيرته ناقداً لامعاً في مدينة باريس في زمنٍ “كانت خلاله السينما لا تقلّ أهميةً عن الخبز” على حدّ تعبيره. وانطلاقاً من العام 1952 فصاعداً، استغلّ مقالاته في مجلة “دفاتر السينما” الفرنسية ليصبّ جام غضبه ويتوجه بالسخرية اللاذعة إلى الأعمال الدرامية خلال فترة السينما الفرنسية المملة، مفضلاً تقريظ أفلام العصابات والأعمال الميلودرامية التي أنتجتها استوديوهات هوليود. وفي أواسط خمسينيات القرن المنصرم، تحوّل إلى صناعة الأفلام مستهلاً بالأفلام القصيرة. بيد أنه شعر بأنه اكتسب حسّاً أدبياً: “أعتبر نفسي كاتب مقالات، إذ إنني أكتب المقالات في شكل الروايات أو الروايات في شكل المقالات. بكل بساطة، أحوّلها إلى أفلام بدلاً من كتابتها” على حدّ قوله.

صنع غودار أول أفلامه الروائية الطويلة التأسيسية “منقطع الأنفاس” في العام 1960 حين كان في التاسعة والعشرين من عمره. وسرعان ما تم الاحتفاء بفيلم الجريمة الدرامي هذا بصفته أحد الأفلام المعتمدة والمؤطرة للموجة الفرنسية الجديدة وللسينما برمتها بصورةٍ عامة، وراح محبو السينما والثقافة الفرنسية في جميع أرجاء العالم يقتنون الملصقات التي تظهر المشهد الرومانسي لبطلي الفيلم، جان بول بلموندو (بقبعته وسترته الرسمية) وجين سيبيرغ (بقميصها التي-شيرت الذي يحمل عبارة: نيويورك هيرالد تربيون) وهما يتمشيان على طول شارع الشانزلزيه.

يبدو تأثر غودار بالسينما الهوليودية واضحاً في فيلمه “منقطع الأنفاس”، إذ ينسج بلموندو، الذي يلعب دور مجرمٍ بسيطٍ، شخصيته على منوال همفري بوغارت. ومع ذلك، يحتفظ الفيلم بهويته واستقلاليته عن الأنموذج الهوليودي على الرغم من أنه قد أعيد إصداره في تنسلتاون وقد لعب ريتشارد غير دور البطولة في النسخة الأميركية.صوّر غودار الفيلم في شوارع باريس، بالأسود والأبيض، وبواسطة كاميرا تُحمل باليد، وقد كتب السيناريو بالتوازي مع تصوير الفيلم. وشابت الاهتزازات التحرير والموسيقا، كما تمت الإحالة إلى الأفلام والكتب المفضلة لدى غودار طيلة عملية التصوير. وهكذا، بدا فيلم “منقطع الأنفاس” عفوياً وعصرياً وشبابياً مرحاً، مقدماً أنموذجاً يحتذى به لأجيالٍ من المخرجين الطامحين إلى صنع أفلامهم الثورية المستقلة الخاصة بالاعتماد على ميزانيتهم المنخفضة.     

علاوةً على ذلك، منحهم الفيلم إحساساً بالتحرر، فلم يعد محرّماً على أفلامهم القيام بأيِّ شيء. ولكن غودار عاود منحهم هذا الإحساس مراراً وتكراراً من خلال أعماله اللاحقة. ففي فيلم “حياتي لأعيشها” (الصادر عام 1962)، تكتب البطلة رسالةً طويلةً، ويعرض الفيلم عملية الكتابة من مستهلها حتى منتهاها. ويبدأ فيلم “عطلة نهاية الأسبوع” (الصادر عام 1967) بمشهد مدته سبع دقائق متواصلة يصوّر الازدحام المروري الكارثي.

وفي فيلم “عصبة الغرباء” (الصادر عام 1964)، يجلس ثلاثة شبّان، ممن سيصبحون لصوصاً، في أحد المقاهي ويبدؤون بشكلٍ عفوي رقصةً مثالية التصميم، مصفقين ومفرقعين بأصابعهم في تجاهلٍ تام من قبل النُدُل وبقية الزبائن. ومن ثم، يلجأ غودار إلى انعطافة ما بعد حداثية أخرى حين تنسحب الموسيقا التصويرية الرائعة من الخلفية ليحلّ محلها التعليق الصوتي بنبرته المتجهمة. لا تعرف عمليات محاكاة هذا المشهد نهايةً، على الرغم من أنه لا يسهم في دفع حبكة اللصوصية قدماً، ولكنه يشكّل القطبة المركزية المبهجة في الفيلم، فمن خلاله تبدو الشخصيات أكثر واقعيةً وأقل واقعيةً في آنٍ واحد. لن نجد صعوبةً في تحديد سبب تسمية المخرج الأميركي كوينتن تارانتينو لشركة الإنتاج التي يملكها بـ: “عصبة الغرباء” كتقديرٍ منه لغودار، الذي ردّ ممازحاً في هذا الصدد بأنه كان يفضّل لو أن تارانتينو دفع له مبلغاً من المال بدلاً من ذلك.

لعلّ هذا الرفض، وهذه الأنفة، أمران طبيعيان بالنسبة لفنان لم يبدِ أي اهتمام بالقبول من جانب الاتجاه السائد. يعود تاريخ فيلميه اللذين قوبلا بالقدر الأكبر من الحفاوة مقارنةً ببقية أفلامه إلى ستينيات القرن العشرين، وهما “الاحتقار” و”بيرو المجنون”، ففي تلك الحقبة كان غودار يصنع الأفلام التي ينصحك الجميع بمشاهدتها بسرعة هائلة كمن يخربش على دفتر ملاحظاته. ومع ذلك، لم يتوقّف هذا المخرج الفذ عن قيادة قطار السينما نحو محطاتٍ جديدةٍ خلال العقود اللاحقة. فتواصل تطوّر أسلوبه الطليعي والريادي مزيلاً الحدود بين الأفلام الروائية والأفلام الوثائقية والأعمال الفنية التنصيبية. زد على ذلك، ارتفعت حدة رسائله المعادية للإمبريالية والبرجوازية، ولم يعرف نهمه لاستكشاف اللغة إشباعاً، كما لم يعرف شغفه بتبني التقنيات الجديدة حدوداً. وحتى حين كان في الثمانينات من عمره، صنع أفلاماً راديكالية أربكت معجبيه كما أبهجتم، وقد مُنِحَ فيلمه “كتاب الصور” أول سعفةٍ ذهبية خاصة في مهرجان كان السينمائي في العام 2018.

على الرغم من أنه احتفظ لنفسه دوماً بصفتي الاستفزازي والغريب، بيد أنه لم يتخلَّ يوماً عن لطفه ودماثة خلقه سواءً في سنيّه الأخيرة أم خلال ذروة نجاح الموجة الجديدة حين أثبت أنه يمكن للمخرج أن يكون شاباً عصرياً متمرّداً وأن تكون له غمّازةٌ في ذقنه وأن يضع نظارةً شمسية وتتدلى السيجارة من بين شفتيه، ويمكنه أن يسهب في الحديث عن أفلام هوليود منخفضة الميزانية والسياسات الثورية بتلك القناعة الراسخة المتقدة. لطالما مارست هذه الصورة الأنيقة تأثيراً لا يقلّ عما مارسته أفلامه بحدّ ذاتها. لقد أرى غودار العالم ما يمكن أن تكون عليه السينما وما يمكن أن يكون عليه المخرج أيضاً.