حين يصرخ الجسد في الفناء

ثقافة 2023/01/30
...

 دعد ديب 

يحدث أنه ورغم الضجيج الصاخب بأصداء وقائع الحرب المشتعلة في سوريا وفي حالة انعدام أي خصوصية للفرد ضمن الظروف القاهرة المحيطة، ثمة فناء خلفي في المكان وفي النفس يمنح مساحة للهدوء والسلام والخلوة مع الذات وفرصة لاسترداد الأنفاس غزلتها لميس الزين في روايتها «الفناء الخلفي» الصادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر لعام 2022 مختزلة العنونة التي لا يدرك القارئ لمعنى خلفيتها النفسية إلا عندما يتوغل في تفاصيل النص في تدرجه عبر مرحلتين زمنيتين.

حيث أشارت الى فنائها الخلفي في فترة يفاعتها في تعبير شمس الشخصية المحوريّة في النصّ عن ضيقها من النظام القاسي للأسرة وقوانينها وطقوسها التي تجثم على روحها كأنثى الذي أظهرته في سلوك المحيط من حولها والدونيَّة والحصار التي تتعامل بها المرأة والتقييد المطبق على حركتها ولباسها وحريتها بالعموم، في مقارنتها لسلوك أخيها الذي استقرَّ أخيرًا بالغرب عندما يرضى لابنته بأن تلبس وتتصور كيفما تشاء وفق ما يحلو لها، هو الذي كان يضيّق عليها الخناق في كل شاردة وواردة من أجل سمعة الأسرة والشرف والقيم، مما يعكس الازدواجية الذكوريَّة في المجتمع الشرقي، ومما أسهم بتشكيل وعيها الرافض لامتهان كينونتها وحريتها وخاصة في علاقات الزواج والارتباط،  كثفته في العبارات المسكوكة المتداولة التي توجز الرأي الاجتماعي والسياسي السائد والقائم على غرار «البنت سترها في بيت زوجها« و«من يتزوج أمي، يصبح عمي«، و«فخار يكسر بعضو« وهذه الأخيرة عكست موقف طبقة التجار التي لا تتحرك ولا تفكر إلا بالأمور التي تخدم مصالحها، فضلا عن التعبير الذكي المستفز لكرامات الشيخ النبهاني «في التي لم تشفى من الديسك حتى داس بقدمه على ظهرها» في توضيح سيطرة الخرافة وسيطرتها على الوعي ورغم ذلك نبش قبره من ذات الجهة التي تجاهد باسم الدين. 

والثانية عندما كبرت وضاق الضجيج العائلي بضجيج الحرب المشتعلة في بلادها حيث أطلت بها على مرحلة حرجة من تاريخ البلد الذي مازالت حرائقه ماثلة في الذاكرة. 

الحصار الاجتماعي والتضييق على الحريَّة رسمت لميس الزين ملامحه عبر جبروت الحاج قدري تاجر الخيوط وصاحب مصنع الأقمشة ذي الثقل الاقتصادي المهيمن الذي يفرض سطوته على الجميع بنظام قاسٍ لا يعرف التهاون أو التساهُل لذلك كانت جريرة الولد سامي وهو يسترق النظر لابنة جيرانه كبيرة جدًا كعيبٍ لا يسمح به مما حدا به لتجريب متعة الانفلات من ربقة هذا القيد مرة بمشاركته بالتظاهرة التي خرجت من الجامع والمرة الثانية في خروجه على أعراف الأسرة بزواجه من شمس السافرة والتي تعمل خارج المنزل بجمع استبيانات لصالح منظمة أمميَّة تُعنى بحقوق الطفل.

 وهذا التوازن الظاهري لأسرة الحاج قدري قوّضته الحرب مرة واحدة وأظهرت الهشاشة التي تختبئ تحتها تلك الصرامة والقسوة، فالسوق الذي دمر بالحريق الشهير «حريق سوق المدينة الأثري بحلب والذي سبق أن سجل من ضمن التراث العالمي في اليونسكو» بأحد الصواريخ والذي أودى بتجارته ومخازنه ومعامله والابن الذي سافر؛ والابن الآخر الذي قضى بالجانب الآخر من المدينة؛ وثالثة الأثافي الابن الأكبر والأكثر التزامًا الذي استقر بتركيا بأمل إنقاذ ما تبقى من رصيد الأسرة وثروتها ولكن الذي حصل انه استغل ثقة والده وسجل كل شيء باسمه واحتكرها لنفسه لتكون قشرة الدين والمبادئ الصارمة غلافُا هشًا يختبئ تحته الجشع والطمع والاستغلال.

نماذج عدة تعرضت لها صاحبة «أرملة سوداء» في رصد ما تعيشه المرأة من تضييق باسم الدين والعادات والتقاليد على حياتها وعقلها، فميمونة ابنة الحاج قدري التي فاتها قطار الزواج ولأنّها لم تعرف وعيًا بديلًا انقلبت متمسّكة بالتقاليد والأعراف بشكل صارم وكأنّها حارسة للأخلاق ومراقبة لاختراق نظامها عند الجميع، وهذا حال الإنسان المقهور الذي تحدث عنه مصطفى حجازي في كتابه «سيكولوجية الإنسان المقهور» بأنَّ الإنسان في حالة عجزه عن مقاومة القوة القاهرة له يتحول إلى مدافع عن الظلم والقيد المطبق عليه ويتماهى مع الذي يستعبده، أما ناهد صديقة شمس التي تعاني حصار المجتمع سواء قمعت رغبتها أم أطلقت لها العنان وهي المرأة المطلقة التي تعيل ابنًا، لأنَّ من تلبي حاجات جسدها خارج إطار الزواج سرعان ما تستهلك وتلقى كنفايةٍ انتهت صلاحيتها وتلفظ خارج قبول المجتمع لها، لنأتِ إلى الشخصية النسائيّة الرئيسة في النص وهي شمس التي لم توفق في علاقة العشق الافتراضي عبر وسائل الميديا لان العاشق الذكر لا يريد أن يخسر أسرته واستقرار بيته من أجل حب لا نعرف مدى قناعته به وإن ادّعى عكس ذلك، ولكن ضجيج الجسد ورغباته حقيقة لا مهرب منها وحاجة واقعة لا تقبل التأجيل؛ لذا تقبل بزواج غير متكافئ مع سامي ابن الأسرة الارستقراطية المحافظة التي لن تقبل بواحدة منها، إذ ‌تلتزم البطلة بأصول العقد الشرعي عندما تضغط عليها الرغبة في إشباع حاجات الجسد وفق إطار لم يخرج بالنهاية عن أعراف المجتمع، ولا نستطيع أن نعتبره تمردًا وإنما نوع من تسوية مع جسدها وعقلها والظروف المحيطة ليكون زواجًا مهددًا من الاسرة والحرب وخيار السفر لتنهي بنفسها علاقتها بسامي قبل أن يصل هو إلى هذه النهاية بنفسه نتيجة الظروف المحليّة والخارجيّة التي لا تسمح باستمرار زواج من هذا النوع، لتكون هي السروة الباقية جذورها ضاربة في الأرض كأملٍ باقٍ بأنَّ وجودها وحياتها متعلق بذاتها تحديدًا لا بالآخرين.   

النص حمل على أسلوب الراوي العليم الذي يروي ببساطة وانسيابيّة عن كل الشخصيات من دون أي منحدرات حادة بالعمل، وتتطور أحداثه بسلاسة رغم الواقع المتفجر حولها بفعل الحرب القائمة، حيث الانتماء والتضحية كذبة اخترعها الساسة ليكون البشر محرقة لمصالح أطراف متعددة، مما يدل على تأكيدها على تصوير الواقع المتخلف وعدم مواكبته للتحديات الكبرى وربما بإيحاء ضمني بالمقدمات التي تؤدي إلى الانهيار عبر تشريح الواقع الاجتماعي الشديد الانغلاق والتزمت في البيئات التي رصدتها عند شمس والشاب سامي الذي تزوجته لاحقًا، واقع متشدد بلبوس دينيّة وذكوريّة يقوم على حراسته رجال أسرة ونساؤها الأم والابنة الكبرى والكل يدافع عن هذه المنظومة لأنّه لم يعرف غيرها إضافة لمحاربة كل تفكير دخيل عليها ووصمه بالرخص والبعد عن الدين والقيم.

جاءت الحرب في رواية «الفناء الخلفي» خلفية للعمل برؤية تصويريّة للوقائع لا نلمس معها اصطفافًا أو تحيزًا سوى مع الإنسان ومآسيه الذي أقحم في حرب لم يستشعر انتماؤه إليها وبالأخص طبقة التجار والصناعيين الذين كانوا خارج الأحداث كون الأولويّة لمصالحهم وتجارتهم، ورغم ذلك وصل حريقها إليهم، الحرب التي قذفت الجميع في أتونها وخاصة لمن اختار أن لا يكون طرفًا فيها كان إنجازه الأكبر في قدرته على البقاء حيًا وفق تعبير الكاتبة، الحياد والانحياز للسلام بالنسبة للإنسان العادي الذي طحنته الحرب والذي بات رغيف الخبز همه الأول والأخير ولعل الاهتمام بالسياسة والشأن العام أصبح ترفًا لا يطمح بالوصول إليه، لتكون ‌العنونة «الفضاء الخلفي» هي المرتجى واللجوء إلى الطبيعة كملاذٍ للنفس القلقة لتلقى السكون والصفاء عند انسداد الأفق في كلّ

ِ شيء.