الأدب الظل

ثقافة 2023/01/30
...

 ياسين طه حافظ

أفكار



لا أدري تماماً أن كان مساراً تاريخياً أم هو شأن مرحلي عابر وظاهرة عارضة لا بد أن تكون أو تصحب الأحداث. فنحن نريد أن نمتلك أدباً وفناً جديدين ونكتب ونرسم مثلما كتبوا ورسموا. ويمكن التوسع، فنكمل وكما قدموا مسرحاً وموسيقى، وأن كانت الظاهرة في الأدب والرسم أوسع. ونريد أن ننماز وتكون لنا ملكياتنا. حال أخرى أنّنا نتحمس للجديد ونحن ما نزال نقلد ما كان قبل عقود وربما مئات السنين بحجة الانتباه إلى امتياز ما أو التباهي بالكشف أو بسعة الاطلاع، أو بنوع من اللهو فنستطرفه ويحلو لنا من باب التغيير..

ثمة حال أخرى، أقل سعةً، تتمثل بحركة مفرطة في التغريب فلا عودة. أقول فلا طريق للعودة بعد، فهي المتاهة المحذور منها. 

بين هذه وسواها من محاولات الخروج عن النمط أو بسبب الرغبة في الجديد أو المختلف، حال أخرى تقع تحت باب صناعة التأثير. 

المشكلة في الصناعة الأدبية غيرها في الصناعة التقنية أو المادية. للأخيرة قوانين وقواعد عمل مرتكزة على أسس علمية. بينما الأولى الأدبية تعتمد الذكاء العقلي والخصب الثقافي. هنا الاجتهادات الفردية لا تنفصل عن الحس الفردي بما وراء المادة أو الشيء. كما لا يبقى الشيء شيئاً حسب، هو يكتسب حياةً من نوع ما، وجوداً خاصاً يفرض مسؤوليةَ ديمومتِه على الكاتب أو المنشئ، وإلا فهي العبثية أو التخريب. فأما حياةً أدبية للنص أو فوضى!

تتفرع المشكلات حين نواجه النص الأدبي وأبعاده وتلك التي تؤثر في “حيويته” أو “فوضاه”. واحدة من هذه الاشكالات ما يواجه الحقيقة الادبية عند تبني أساليب المدارس الجديدة وأجواء آدابها. نحن نحاول أن نوجد تماثلات مع ما نقرأ بالمواد الخام التي لدينا، سياقات لغوية ومفردات وأساليب خطاب. بل واخراج المفردة إلى غير عالمها. هنا العبارة ذات ارتباط باللغة المألوفة أو الموروثة والمعنى ذو ارتباط بالوعي الجديد! وبسبب ذلك تنشأ مسألة معقدة ومهمة نحن عادةً ما نتجاوزها يأساً من حل، واستسلاماً لواقع حال. فالكتابة في حال كهذه قديمة لكن ليست تامة الوفاء لقدمها. وجديدة لكن ليست خالصة للجديد. وكأن الكتابة في العالم يتوقف تجديدها أو تطورها بانتظار ما تفعل كتابتنا. هذه الحال تأتي بعقل وتصور ملتبسين، ولذلك نلمس في لغة الشعر ولغة الرواية وكل الكتابة الأدبية أحيانا، انحرافات قاسية سببها تجاوز الفروقات التاريخية وفرض فهم واحساس جديدين مما هو لنا وليس لنا.. 

القول إننا نحتاج إلى تلك العوالم الادبية التي نطّلع عليها ولا سبيل لنا غير ما تيسر، هذه حقيقة وأنا أدركها إدراكاً تاماً ضمن عملي في الترجمة أو في الكتابة. لكن هذا هو ما يدفعنا للكلام في الموضوع.

ولكي نخطو خطوة إلى المستقبل، صار مفيداً انتباهنا لعوزنا، لحاجتنا إلى خطوة تأسيسية أولى لندرس من بعد خسارةً لم ننتبه لها في السياقات القديمة وضرراً حاصلاً في الكتابات الجديدة. لا تكفي الفلسفات والاجواء الفكرية المصاحبة للنص، لنقلل سلطة أجوائنا وأفكارنا القديمة على جديدنا الناشئ والمرتبكة جِدته بالقديم.

العالم واحد. هذه حقيقة جغرافية وإنسانية. لكن الفروقات واسعة وكثيرة في الثقافات وفي اللغات وايحاءاتها وفي مدى التأثر بالجديد وفهمه. 

لا بدَّ من الاقرار بأن الأدب “الجديد” المتأسس على أدب “قديم”، لغةً وايحاءات، تظل محصلته هجيناً غير صافية الحداثة. ولو أدركنا الاختلافات البنيوية بين النصوص القديمة في مراحلها التاريخية المختلفة والمتباعدة، لزاد الاشكال تعقيداً. فاذا أضفنا مضمرات اللاوعي عند القارئ اليوم وإحاطة الأحداث به، لن يتشابه نص عند قارئ والنص نفسه لدى قارئ آخر. ثمة مشتركات عامة “تسوّق” النصوص وتوجد تفاهماً أو صلة ما، غير محددة طبعا، بين القراء، وإلا فهم مختلفو القراءات للنص الواحد المفترَض. أعتقد أن للنص الواحد، شعراً أو نثراً، أكثر من صورة فضلاً عن أن اللغة الواحدة المشتركة، ليست واحدة، لا في ايحاءاتها ولا حتى في صلة القارئ بمضمون مفرداتها.

هذه الحقائق، أو هذه الشكوك، تخلق لنا مشكلات معقدة وصعبة الحل لم نأبه بها. وما اهتمت بها حتى الآن دور النشر، وهي تعلم أن ثمة جانباً يعنيها: هو كيف تقدم عملاً يهيئ مشاركة “معقولة” لكن سليمة، في الفهم والتذوق والايحاء لقراء مختلفي المستويات الثقافية مختلفي الوعي؟ وكيف تقدم عملاً “قديماً” يحافظ على شخصيته ومذاقه لناس زماننا البعيدين زمنا وثقافةً ولغةً واجواءً حضارية؟ هذه لها تأثيرها حتى على شكل الكتاب الجديد طباعةً وإخراجاً، فضلاً عن مسارات التلقي وتدخّل الشارح أو المفسر الجديد. فنحن نشير للأحداث القديمة عبر ضباب اليوم. ثم كيف يكون نص جديد نكتبه وراءه ذلك الأدب القديم الذي تحدثنا عنه ومختلطاً بالجديد الذي امتلكناه، وشخصيتا الكاتب والقارئ تحت تأثير العوامل التي أشرنا لها وايحاءاتها وبنسب تتحكم بها الصدف؟ الأمر يقرب من التماس بالفوضى. لا ننسَ أن ليس فقط مضمرات لا وعينا، ولكن مفردات عيشنا وأجواءه كلها تتدخل في القراءة والفهم وفي مدى واتجاه الدلالة. معذرة نحن عموماً لا نقرأ الأدب الأصل، ولكن نقرأ الأدب الظل الذي تصنعه شخصياتنا ومدى ونوع حضورنا الثقافي في العالم. النص الذي لديك يشبه الذي في يدي، ولكنهما للأسف،

مختلفان!