مَنْ يُجيبُ عن أسئلة الثقافة العراقيَّة؟

ثقافة 2023/01/31
...

  رضا المحمداوي 

لأسباب عديدة وتحت ظروف صعبة ومعقدة امتدت لحقب تأريخية طويلة باتَ العراق يعاني من تخلف في المستوى الحضاري بشكل عام، مع تراجع مستمر وتآكل واندثار في المقومات والأدوات الداخلة في صنع الحياة العراقية نفسها وعلى الأصعدة كافة. وداخل ثنايا هذا الموقف المبني على الوعي العالي وبرؤية نقدية لذلك الواقع المأزوم يمكن طرح التساؤل عن ماهيَّة التغيير الثقافي المنشود باعتبار أنَّ الثقافة العراقية قضية من القضايا الوطنية الكبرى، لا سيِّما ونحن ندخل ما يقرب من عشرين عاماً من الزمن الديمقراطي الذي أسسه الاحتلال الأميركي بعد إسقاطهِ للصنم الدكتاتوري في 9/ 4/ 2003.

 فهل أصبح هذا الزمن الديمقراطي هو المناخ أو البيئة الثقافية التي انتظرها المثقف العراقي لكي يمارس دوره ويقدم عصارة أفكاره ويتفنن في ابتكار طرق وأساليب التفاعل مع مجتمعه من أجل ايصال صوته والمساهمة في إحداث التغييرات الجذرية المنشودة؟                                                  

وبكل المقاييس والمعايير التي يمكنُ اعتمادها في تقييم التجربة الثقافية خلال الأعوام العشرين الماضية، فإنَّ النتيجة النهائية كانتْ مُخيِّبةً للآمال.

والآن بعد تلك السنوات العجاف والتجربة الفاشلة المريرة في تعامل الدولة العراقية الجديدة (التي تمَّ تأسيسها بعد 9/ 4/ 2003) مع ملف الثقافة العراقية، هل يتوجّبُ على المثقف العراقي أنْ يبقى حبيس غرفته الشخصية، أو مكتبه الرسمي في المؤسسة الحكومية يسوّد أوراقَهُ البيضاء ويقلّبها ذات اليمين وذات اليسار وينتظر ما تقدِّمهُ لهُ المنظومة السياسية المنخورة بالفساد والمحاصصة والهيمنة الحزبية وسيادة روح المكاسب والمناصب والغنائم، أمْ على ذلك المثقف المسالم الأعزل وسط فوضى السلاح المنفلت والعصابات المسلحة أن يغادر تلك الصورة الساكنة وإطارها الثابت لكي يقتحم بأفكاره تلك المنظومة المتهالكة والهشة ثقافياً ليجبرها على الاستماع والإصغاء لما يقول؟

وبمعنى أكثر إيلاماً هل سيذهبُ المثقف إلى المستقبل الثقافي ليصنعَهُ بيدِهِ ويصنعَ زمنَهُ فيه أمْ يتوجّب عليه البقاء في زمنِهِ الثقافي الراكد المتقوقع بانتظار ما يجود عليه الزمن الديمقراطي العقيم؟ وإذا كان الأمر كذلك فمَنْ ذا الذي يُحاولُ إحياء الروح الثقافية العراقية بعنوانها وشعورها (الوطني)؟

نعم أن قضية الثقافة العراقية من القضايا الكبرى في الدولة العراقية وإدارتها، وينبغي أن ننظر إليها بهذا المنظار دون غيره من استحقاقات ما يسمى بـ (العملية السياسية) ولغة المُكونِّات المجتمعية والاستحقاق الانتخابي أو الحزبي والطائفي.  

وأزاء قضية الوطن الثقافية ماذا على المثقف العراقي بنقاباتهِ ومنظماتِهِ المهنية والجماهيرية وتسميات المجتمع المدني الثقافية المتعددة والمنتشرة في محافظات العراق (عدا اقليم كردستان) أنْ يفعل وهو يشاهد وبشكل سافر ومجحف كيفية التعامل مع عنوان الثقافة العراقية الرسمي (وزارة الثقافة)؟

ومن هنا يتوجب تحديد الواجب الثقافي والمسؤولية الوطنية الثقافية لمواجهة سلب وتجريد العراق من هويتِهِ الثقافية المعروفة وعلى المثقفين سواءٌ أكانوا فرادى أمْ داخل منظماتهم وتجمعاتهم الثقافية وعناوينها المتعددة في جميع المحافظات أن يمارسوا فعلهم الثقافي الصادم مع المنظومة السياسيّة الحاكمة من اجل إحداث الحركة الثقافية الجديدة وإشهار الحقائق والمعوقات والسلبيات بوجهِ الحكومة والسلطات السياسية الحاكمة مِن أجل تخطيط ورسم مسار ونهج الثقافة الثورية الحقة.

إنَّ عملية التصحيح التي يُفترض بها أنْ تكون جماعية هي من حيث المبدأ والأصل تعتمد وتقوم أساساً على المبادرة الثقافية الفردية، وهذه الأخيرة خطوة يجب أنْ تقدم عليها وتبادر الى طرحها الاتحادات، أو الجمعيات، أو المراكز الثقافية، أو مؤسسات المجتمع المدني.. مبادرة تقترحها وتقدّمها للمؤسسات الحكومية كمنهاج عمل أو خطة عامة تهدف في المحصلة النهائية الى إرساء دعائم ثقافة عراقية فاعلة ومتفاعلة مع وسطها الثقافي المُنتِج وصاحب الحضور الثقافي المتنوع، ويمكن لهذه المبادرة والتفكير بها والدعوة اليها أن تكون فعلاً ثقافياً خاصاً داخل ثنائية (الثقافة - المثقف) من أجل ان تثبت الذات الثقافية وجودها وتنتزع الاعتراف من المؤسسة الثقافية نفسها، وكذلك إضفاء وإسباغ الصفة الجماهيرية أو المجتمعية الفاعلة على فعلها الثقافي.

وفي هذا الإطار يجب النظر بعين الاهتمام والرعاية الحقيقية والجادة للجهد الثقافي الذاتي الذي يُقدِّمُهُ المثقف بشكل عام والأديب والفنان المُنتِج على وجه الخصوص في حقول الرواية والقصة والشعر والنقد والفكر والفلسفة ومجالات المعرفة الأخرى في التاريخ والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس وغيرها الى جانب حقول الفنون الأخرى مثل الموسيقى والفنون التشكيلية بفروعها وأقسامها كافة (هذا إذا طرحنا جانباً الفنون الدرامية ذات الطبيعة الجماعية والتكاليف المالية الباهظة مثل السينما والدراما التلفزيونية والمسرح). فلا يمكن الاستمرار بالنظرة الدونية والقاصرة لهذه النتاجات ذات الطابع الفردي الذاتي حيث يتحمَّلُ الأديب والفنان المُنتِج للعمل الفني والأدبي نفقات وتكاليف إنجازه الثقافي الشخصي، فضلاً عن  جهده الابداعي المضني والشاق والذي يمتد لشهور طويلة. لقد قَتَلتْ هذه المجانية المجحفة والبائسة العديد من الاعتبارات والقيم المعنوية للمثقف المُنتِج ونتاجِهِ الثقافي، وثَلمَتْ جوانب مهمة من صورتِهِ الشخصية أمَام المجتمع.

فهل سيبقى المثقف المنتج مكتفياً بهذا القدر من الفعل الثقافي المجاني؟ بل في أصل السؤال: هل هذا هو بالفعل واجب المثقف أزاء الثقافة العراقيَّة؟

وماذا عن المؤسسات الثقافيّة الرسميّة؟ وماذا عن بنيتها الحالية ومستقبل وجودها وكيفية النهوض بها ومحاولة تطويرها بما يُعزّز إقامة علاقة تغادر محطة العلاقة الباردة والباهتة مع المثقف المُنتِج باتجاه محطات أكثر تفهماً وتعاطفاً وتفاعلاً؟

ومن خلال نظرة واقعية تستند الى الوقائع والتجربة التي عشناها طوال السنوات الطويلة الماضية من الزمن الديمقراطي العقيم في التعامل مع مفصل وملف الثقافة العراقية، فإن الوسط الثقافي العراقي سيبقى راكدا مستسلما لقدرِهِ التراجيدي ولا يبقى أمَام المثقفين سوى جلد الذات العراقية المحبطة

واليائسة.

وأحسبُ أن هذه الحال من تعطيل الفعل الثقافي وفساد القيم هي حالة متوارثة ورثها المثقف والوسط الثقافي العراقي من خلال تعاملِهِ السلبي وخضوعِهِ واستسلامه السابق خلال سنوات الحكم الديكتاتوري الصدامي وهي حقبة ليستْ بالقصيرة فقد امتدت إلى ما يَقربُ من ربع قرن وهو زمن كفيل بتجذرها وترسخها داخل منظومة العقل الثقافي العراقي.