طبق رأس السنة

ثقافة 2023/02/01
...


تاتيانا تولستايا

ترجمة جودت جالي

أقول لكِ الحق، كنت دائماً خائفة منه، منذ الطفولة.

هو لا يكون محضّراً مصادفةً، أو حين تتملككِ الرغبة، ولكن غالباً ما يجري تحضيره عشية رأس السنة الجديدة، في قلب الشتاء، في أقصر وأكثر أيام كانون الأول شراسة.

يأتي الظلام مبكراً.

يوجد صقيع ضبابي، وأنتِ تستطيعين رؤية هالات شائكة حول مصابيح الشارع.

عليك أن تتنفسي من خلال قفازيك، وجبهتك تؤلمك من البرد، وخداك خدرانان.

لكن ما هو ناقص ليكمل عناؤك أنه لا يزال عليك أن تغلي ثم تثلجي الهلام اللحمي، اسم الطبق نفسه يجعل درجة حرارة روحك تهبط، ولن ينقذك شال سميك من شعر الماعز.

إن عمل الهلام اللحمي دِين من نوعية خاصة.

إنه تضحية سنوية، حتى إن كنا لا نعلم لمن ولماذا، والذي سيحصل إن لم نعمله يشكل علامة استفهام.

لكن لسبب ما يجب عليكِ أن تعمليه.

عليكِ أن تمشي في البرد إلى السوق، تسود العتمة دائماً هناك، الجو ليس دافئاً أبداً هناك.

بعد أوعية الأشياء المخللة، بعد القشدة والكريم الطازج العابق بالبراءة البَناتية ، بعد مركز المدفعية للبطاطس، والفجل، والكرنب، بعد تلال الفاكهة، بعد إشارات مرور الليمون الكليمونتيني، إلى أقصى ركن، حيث مجموعة محال التقطيع، هنالك حيث الدم والبلطة، “استدعِ روسيا إلى الفأس”، إلى هذه البلطة هنا بالضبط، غارزة نصلها في الجذعة الخشبية.

روسيا هنا، روسيا تختار قطعة لحم.

-» إيغور، إقطع السيقان للسيدة”.

رفع إيغور بلطته: هاكْ!

يعزل رُكَب البقرة البيضاء ويشق السيقان. 

يشتري بعض الناس قطع خطم، وشفاهاً، ومنخراً، وأولئك الذين يحبون مرق لحم الخنزير يأخذون قدم خنزير صغير وحوافره.

وأنا أحمل واحدة من تلك القطع وألمس جلدها الأصفر أجدها منمَّلة، ماذا لو هزَّت يدكِ بالمقابل فجأة؟

إن أياً منها ليست ميتة حقاً: تلك هي الأُحجية المحيرة.

لن تمشي في أي مكان، أو تزحف، لقد قُتلت ولكنها ليست ميتة.

إنها تعرف أنكِ جئتِ لتأخذيها.

بعدها يجيء دور شراء شيء جاف ونظيف: بصل، وثوم، وجذور، وخضروات.

وتعودين إلى البيت خلال الثلج، وجلبة انسحاقه.

مدخل البناية المثلَّج.

لقد سُرِق المصباح مرة أخرى.

تتلمسينَ في الظلام زرَّ المصعد وتشع عينُه الحمراء.

تظهر أولاً أسلاك القفص الحديدي للمصعد، ثم القمرة نفسها.

إن رافعات مدينتنا القديمة سان بطرسبورغ بطيئة.

إنها تُقرقِع عندما تمرُّ بكل طابق، مختبرة صبرنا.

تسحب السيقان المقطعة في حقيبة التسوق ذراعك إلى الأسفل، وتبدو أنها في اللحظة الأخيرة بالذات ترفض الدخول في المصعد.

ستنتفض، وتتحرر، وتهرب، مطقطِقة عبر السيراميك، كلبتي-كلوب، كلبتي-كلوب، كلبتي-كلوب.

هل سيكون هذا أفضل ربما؟

كلا.

فات الأوان.

في البيت، تغسلينها وترمينها في القدر، وتشعلين النار عالية.

هي الآن تغلي، تتمايز غيضاً، السطح الآن مكسوٌّ بالتموجات الرمادية القذرة، كل ذلك السيء، كل ذلك الثقيل، كل ذلك الخائف، كل ذلك المتألِّم، المرمي، والذي يحاول الفِكاك، الذي أطلق قباعه وأطلق خواره، لم يستطع أن يفهم ما حدث له، قاوم، وشهق.. كلها استحالت إلى قَذَر.

كل الألم وكل الموت انقضى، متخثراً إلى زبدٍ لباديٍّ كريه.

منته، هادئ، غفران.

ثم يحل الوقت لتفريغ هذا الماء الميت، لتشطيف القطع المسكنة كلياً تحت صنبور جار، وإعادتها إلى قِدْرٍ نظيف مليء بالماء الجديد.

إنه لحم ببساطة، طعام ببساطة، وكل ما كان مخيفاً انتهى.

زهرة زرقاء هادئة من غاز الطباخ، مجرد قليل من الحرارة.

تدعينها تغلي برفق، هذا دفن يستلزم من خمس إلى ست ساعات.

يمكنك، فيما الأكلة تنطبخ، أن تحضِّري الخضروات والبصل.

ستضيفينها إلى القِدْر على دفعتين، أولاً قبل ساعتين من انتهاء طبخ المرق ومن ثم بعد 

ساعة.

لا تنْسي أن تحرّكي بكثير من الملح، وكدحك تم.

عند انتهاء دورة الطبخ سيكون هناك تجلٍّ لحمي كامل، سيكون القِدر بُحَيْرةً ذهبية بلحم عَطِر، ولا شيء، لا شيء سيذكِّرنا بإيغور.

الأطفال هنا، إنهم ينظرون إلى القِدر، غير خائفين، من الآمن أن تريهم هذا الحساء، ولن يسألوا أية أسئلة عويصة.

صَفّي المرق، أخرجي اللحم، قطِّعيه بسكين حادَّة، كما فعلوا في الأيام الخوالي، في عصر القيصر، والقيصر الآخر، والقيصر الثالث، قبل مجيء ثَرْم اللحم، قبل فاسيلي الأعمى، وإيفان كاليتا، وآل كومان، وآل رورك، وسينيوس وتروفور، الذين لم يوجدوا أبداً، كما تبيّن.

تنصبين السلطانيات والصحون وتضعين بعض الثوم المهروس الجديد في كل واحد.

تضيفين اللحم المقطَّع، وتستخدمين المغرفة لتصبِّي فوقها مرقاً جيلاتينياً ذهبياً ثخيناً، وذلك هو الطبق.

عملك أُنجز! الباقي مُوكَلٌ للجليد.

تأخذين السلطانيات والصحون خارجاً إلى الشُرفة، تُغطِّين التوابيت بأغطية، وتمدِّين فوقها مادة تغليف بلاستيكية، وتنتظرين.

قد تبقين أيضاً خارجاً في الشُرفة متدفّئة بشالك.

تدخِّنين سيجارة وتنظرين إلى نجوم الشتاء غير مستطيعة أن تتبيني واحدة.

تفكرين بضيوف الغد، وتذكِّرين نفسك بأنك بحاجة إلى كوي شرشف المائدة، وتضيفين قشدة حامضة إلى فجل الخيل، وتدفِّئي الجعة وتثلِّجي الفودكا، وتبرشي بعض الزبدة الباردة، وتضعي بعض الكُرنب في صحن، وتقطِّعي بعض الخبز.

أن تغسلي شعرك، ترتدين ملابسك، تتزينين بزينتك الأساسية، المسكرة، وأحمر الشفاه.

وإذا تشعرين بأنك يعجبك أن تبكي من دون معنى فإفعلي ذلك الآن، بينما لا يستطيع أحد رؤيتك.

إفعليه بعنف، من أجل لا شيء وبلا سبب، تشهقين وتمسحين دموعك بكُمِّك، تطفئين سيجارتك على درابزين الشرفة، ولا تجدينها هناك، فتُحرقين أصابعك، لأنه كيف يمكن بلوغ هذا الهناك، وأين هذا الهناك... لا أحد يعرف.


**  

Tatyana Tolstaya

كاتبة روسية وصحافية حائزة على جوائز من مواليد 1951.

جَدُّها من ناحية أبيها ليو تولستوي، وجَدُّها من ناحية أمها إيفان تورجنيف.

عنوان القصة في الأصل Aspic

 (الهلام اللحمي).