عرض (لوميير) الإسباني بين سحر الدور وسِحر الممثل

ثقافة 2023/02/08
...

 أ. د. حسين علي هارف

 في عرض ينتمي إلى (one man show) الصامت، وليس إلى المونودراما كما تمَّ تصنيفه، قدّم الممثل والمخرج الإسباني تكسما مونوز مهارات هذا الفنّ بالغ الخصوصية وأبرز جمالياته من خلال إشارات وإيماءات حركية وصوتية في فضاء مسرحي خالٍ إلا من مصباح متدلٍ من سقف المسرح وصندوق ألعاب الخفة (السحرية) ومعطف متعدد الأوجه والألوان والوظائف، كان بمثابة محور العرض وبؤرته الفنية التي استحضر الممثل من خلالها وبمهارة وذكاء عدداً من الشخوص باستخدام الممثل لهذا المعطف وإعادة تشكّله ليكون أقرب إلى الدمية في أوضاع ومواقف عدّة. لقد قدّم لنا الممثل عبر معطفه وبطريقة تحريك خاصة فنية ومبهرة شخصيات حكايته فكان بذلك على المسرح صانع الدمية ومحركها في الوقت نفسه. وكما فعل مع المعطف فقد تفنّن ممثل الدور (الساحر) في التعاطي مع عدد من قطع الإكسسوار وتوظيفها للحدث المسرحي في إطار ما يسمى بـ(مسرحة الأشياء) أي الأزياء أو قطع الإكسسوار والمنظر لتنطق مسرحياً.

ومن خلال هذا المعطف (الدمية) والأشياء الممسرحة استطاع الممثل وحده أن يوصل لنا جوهر حكايته مع (ساحر ألعاب الخفة) الذي عرفه في طفولته وتأثر به وبأبويه وبعالم الخفة والسحر الممتع الذي بات قدره.. 

كل هذا المتن الحكائي قد تم سرده في إطار مكان افتراضي (محطة القطار) فالبطل (الساحر) وهو يحمل تذاكره ظل يسعى باتجاه الوصول!! فهل سيصل القطار إلى وجهته؟ 

ارتكز عمل ممثل دور ( الساحر) في هذا العرض إلى جانب مهارات الفن الصامت.. على مبدأي (المشاركة والارتجال) فقد افتعل الممثل الكثير من المواقف الآنية محاولة منه لاستدراج الجمهور جماعياً أو بعض أفراده إلى المشاركة غير المباشرة أو المباشرة التي قد تصل إلى اعتلاء خشبة المسرح للمشاركة في الحدث المسرحي ولاسيما في مشاهد ألعاب الخفة التي أجادها الممثل، فقد استدرج الممثل بذكاء وبمهارة أحد المشاهدين ليكون شريكاً له في إحدى ألعابه السحرية كما يفعل السحرة (أصحاب ألعاب الخفة) في حفلات السيرك، حتى المصورة الفوتوغرافية التي كانت تصور لقطات من العرض وتتحرك قرب خشبة المسرح لم تسلم من عملية الاستدراج والمشاركة فبنى الممثل الساحر معها مشهداً مرتجلاً تفاعل معه جمهور الصالة بتعاطف واستمتاع فوجدت المصورة الفوتوغرافية نفسها تنقاد إلى الممثل وتكون شريكة له في المشهد. 

لقد اعتمد الممثل إلى جانب ما تم ذكره على مهارة الارتجال الآني واستثمار حركات وردود أفعال الجمهور على المستويين الجماعي والفردي بغية إضحاك الجمهور الذي استمتع بذلك إلى حد كبير بعد أن انتزع الممثل في مناسبات عدة ضحكاته أو ابتساماته في أقل تقدير. وبذلك نجح الممثل في إشاعة جو من البهجة والمرح في فضاء الصالة، وهذا الأمر يمثل أحد أهم أوجه ووظائف فن التمثيل الإيمائي الصامت لاسيما في شقّه الكوميدي. فالضحك هنا يشكّل هدفاً نبيلاً في حد ذاته، وصناعة الضحك هنا تمثل تحدياً فنياً ورسالة إنسانية نبيلة بعيداً عن ضرورة التضمين الفكري الهادف، فالضحك هنا يتحول من مجرد وسيلة وعنصر إمتاع فني إلى مضمون إنساني.

وإلى جانب الأفعال الحركية الإيمائية التي أتقنها الممثل بمرونة وانسيابية فقد أجاد استخدام بعض الأصوات أو (الجيستات الصوتية) التي تختزل الكلام واللغة إلى جانب تعابير وجهه، لتكون مفاتيح لفهم بعض ما قد يستعصي على المتلقي. وقد استعذب الجمهور الحاضر تلك الأصوات السيميائية والمبهمة في شكلها (طابعها الصوتي التنغيمي) التي كان يطلقها الممثل باقتصاد وتقتير وتقنين عال، حتى أنَّ الجمهور بات يردد مع الممثل بعضاً منها مبتسماً ومبتهجاً.

لقد أمسك الممثل بجمهور العرض واستدرجهم إلى ما كان يخطط له في سياق العرض، وقد كان الجمهور سعيداً ومسروراً في أن يقع وبإرادته في فخاخ الممثل ومقالبه المرحة والظريفة. 

لقد استعار تكسما مونوز في تركيب مسرحيته بالبنية الدائرية التي تتصف بها غالباً النصوص المونودرامية، فقد انتهى العرض بمثل ما ابتدأ به (إشعال المصباح) في دلالة سيميائية واضحة ومؤكدة لفكرة العرض ورسالته.

كان تكسما مونوز مستمتعاً وممتعاً في الوقت ذاته وقدم لنا أداءً فردياً ينطوي على التماعات فنية تؤكد علو كعب هذا الفن بالغ الخصوصية (فن البانتو مايم) الذي باتت تخصص له بعض الدول المتقدمة مسرحياً مهرجانات خاصة به.

ولعلنا- على المستويين المحلي والعربي- بحاجة ماسة إلى خطوة مماثلة تشجيعاً لهذا الفن وضرورته وتثميناً لفنانيه ومبدعيه.

ملاحظة

——-

عرض (لوميير) تم تقديمه في مهرجان فجر الدولي للمسرح/ الدورة 41