نيقولاي برديائف.. فيلسوف العزلة والحريَّة

ثقافة 2023/02/08
...

 أوس حسن


تمنح الحروب والكوارث التي يمر بها العالم إحساساً بمسؤولية الفيلسوف ورسالته الكونيَّة، وهذا الإحساس العميق هو ما يؤرق الفيلسوف في البحث عن معنى أصيل يربط الإنسان بعالم مجرد. عادة ما تشير بعض الدوافع الأوليّة في حياة الإنسان إلى البحث عن المعنى، والبحث عما هو أبدي، فالعواطف التي تمسك بالعالم وتمزقه في الوقت نفسه هي عواطف تجعل العالم جديراً بالتجربة والمعرفة.


 حتى لو لم يكن هناك معنى، فإنّ مجرد البحث عن معنى كفيل بأن يجعل الحياة ذات هدف ودلالة.

ومن هنا يرى الكاتب والفيلسوف الوجودي الروسي نيقولاي برديائف (1874 - 1984)، أن الإنسان الذي يصل اعتقاداً يتعلق بمعنى الحياة، معناه أنه وصل إلى حالة من الوجود مشحونة بذلك المعنى. 

إنَّ المحن والعذابات والعواصف التي تجتاح الوجود الإنساني تضع البشر في مواجهة سر الحياة اللامعقول، فالعالم الذي يشكل مصدر عذاب للإنسان، عالم يصنع هلاكه بنفسه، لكنه مع ذلك يضيء دائماً، ويضفي المعنى على الفجيعة.


الاغتراب الأصيل وبداية التفلسف 

شهد برديائف اللحظات المصيرية التي عانتها أوروبا في الحرب العالمية عام 1940، من انهيارات وأحزان ودماء مُراقة، وشهد على هذا العالم وقسوته التي حوّلت الإنسان إلى دمية محطمة تحت وطأة ضرورات لا ترحم، فكان الإنسان مسحوقاً ومشلول الإرادة، حيث وجد برديائف نفسه مدفوعا إلى تأمل الموت كحدث له دلالته الأساسية في الوجود والوعي الإنساني، حتى حياة برديائف نفسها لم تكن خاضعة للحكمة والتعقل، وكان يدرك طبيعتها اللامعقولة التي لا يمكن التنبؤ بها، عانى برديائف في حياته من الفزع والقلق الوجودي، وفترات نشوة مفرطة تلتها فترات من الكآبة والشعور بالضيق، لكن السؤال الذي ظل يراود برديائف هو سؤال نابع من تأمله الباطني في الإنسان والأشياء، ألا يمكن أن يمتلك الإنسان واقعاً أصيلاً، ألا يمكن لطبيعة الأشياء نفسها أن تعلو على العالم المنكوب؟ 

إنَّ تجربة الشر والعذاب تدفع الإنسان بأن يعلو على هذا العالم، وأن يكتسب معرفة جديدة، فكل معرفة هي مؤلمة، وبزوغ الوعي يعني نهاية حالة البراءة والسذاجة الأولية عند الإنسان.

 وهذا ما سنلاحظه في حياة نيقولاي برديائف التي شهدت تحولات فلسفية ومعرفية، فبالرغم من انتمائه لطبقة برجوازية من الأعيان الروس، إلا أنه اعتنق الاشتراكية والأفكار الماركسية في فترة من حياته، وبهذا الصدد  يذكر في كتابه "الحلم والواقع: الذي كان بمثابة سيرة فكرية وذاتية، أن الدافع الثوري قد انبثق عنده نتيجة عجز فطري عن الخضوع لنظام العالم والانصياع لمطالبه، ولهذا الدافع دلالة شخصية في الدرجة الأولى، إذ نرى برديائف معنياً بثورة الشخص الإنساني، لا بثورة الشعب أو الجماهير، فالثورة الحقيقية هو موضوعها الذات الإنسانية، والثورة الشخصية وحدها من تستحق لقب ثورة.  

لم يكن الوضع أحسن حالاً بعد تحول برديائف إلى النزعة الذاتية المؤمنة، وانضمامه الصريح إلى حركة التجديد والإصلاح في الكنيسة الروسية. 

كان بيرديائف يشعر باختناق روحي في التجمعات التي تختصر الإنسان إلى موضوع أو فكرة، وينسحب هذا أيضاً إلى الدين الذي تجرد من عالمه الروحي المستقل، وتحول إلى ظاهرة اجتماعية تخضع للابتذال وحكم المعايير السائدة.  

بدأت الغربة تعلن نفسها بوضوح في أعماق برديائف، وعانى كثيراً من عدم اندماجه في أي حشد منظم ومبرمج، كان الاغتراب هو البداية الحقيقية للعزلة عند برديائف لاكتشاف ما تحويه الشخصية من حرية ومن فعل روحي خلّاق، وهذا الفعل الروحي ليس مجرد عوالم باطنية وشطحات صوفية، وإنما يجب أن تحقق هذه الروح نشاطها في المجتمع والتاريخ والإنسان.


الحريَّة والتمرُّد 

يرى برديائف أن الحرية سابقة لكل وجود، والحرية هي التي تنشأ من الاختيار ومن النشاط الروحي الخلّاق الذي يتجه إلى الوجود بأكمله، ولا ينكفئ على الذات، وكل حقيقة يجب أن تكون صادرة عن الحرية، والحرية هي أن يكون الإنسان واقعاً في قلب المأساة وأن يتقبل الألم بروح شجاعة، فأغلب الناس يتنازلون عن الحرية، لتخفيف أعبائهم، والهروب من آلامهم، كما يقول دوستويفسكي.

إن كل حشد منظم أو في سبيله إلى التنظيم هو معادٍ للحرية، وميال إلى إنكار الشخصية الإنسانية. 

 تستمد الحرية وجودها من الأبدي واللامتناهي. 

هي الروح التي لا يحددها شيء سوى الإنسان من داخل نفسه، وأن يكون هونفسه، والوجود هو الحرية معتقلة ومجمدة، وهذا ما يقودنا إلى منطق جدلي للحرية يتجلى في مصير العالم والإنسان.

أما التمرد فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرية، فكل تمرد ينطوي على ميل شديد للحرية، ويشير برديائف أن المرء لا يمكن أن يتمرد دون الرجوع إلى قيمة نهائية يحكم بها على ما اعتزم معارضته، وباسم هذه القيمة يتمرد. 

كان برديائف متمرداً حقيقياً، وربما فوضوياً إلى حد كبير كما نعته بعض الفلاسفة والسياسيين، لكن هذا التمرد لم يسمح لبرديائف بالانخراط في الإرهاب الثوري، بل كان تمرده على العالم ونظامه المذل، وهذا التمرد ليس ارتداداً إلى العالم، ولا خضوعاً لمطالبه، وإنما تمرد الروح والشخصية على العنصر الجماعي. 

كذلك فإن برديائف لم يرَ في نفسه متمرداً على الله، فالإنسان لا يتقبل الفكرة العميقة عن الله من دون أن يحمل على عاتقه أحزان البشر وآلامهم.

إنَّ التمرّد قبل كل شيء هو احتجاج ضد لا معقولية العالم، وضد وجود يتسم بالنقص أو الحرمان.

إذن، فمنبع التمرّد على الله ينشأ من عدم قدرة الإنسان على الاعتراف بأفكار الناس عن الله وعقيدتهم به.

حتى العقيدة الوحشيّة عن آلام الأبديّة، وعن عذاب السعير والجحيم، ليست سوى أفكار بشريّة وإسقاطات للغرائز السادية في مجال الدين.


 الروح والفلسفة الوجوديَّة 

تُعد فلسفة برديائف من الطراز الوجودي، إذ تتقاطع الكثير من مفاهيمه عن الإنسان الفرد، مع مفاهيم المذهب الوجودي وأقطابه الممثلة بكيركيغورد وهايدغر، وسارتر، لكننا نلاحظ هيمنة كيركيغوردية على كثير من أفكار برديائف إن جردناها من النزعة الثيوصوفية والتأملية. 

رغم ذلك فإنّ برديائف لا يعد نفسه فيلسوفاً وجودياً، بل يرى في القديس أوغسطين وباسكال وكيركيغورد ونيتشه ممثلين حقيقيين للفلسفة الوجودية، أكثر مما يمثلها سارتر وهايدغر وياسبرز، الذين اختصروا الإنسان إلى أداة موضوعية أو ذات مجردة في مقولاتهم عن الوجودية.

وبرديائف وجودي لأنه يؤمن بالفرد، وبتجليات الكلي في العيني للشخص العارف والموجود، وهو يرى أن حياة الإنسان تمزقها التناقضات التي يجب أن تواجه وتبقى في توترها، لذا فالفلسفة هي الكشف عن الطبيعة الأصلية للذات نفسها، وهي تجربة روحية تنبثق من الحياة المتكاملة للروح.


العزلة والقلق 

يُعرّف برديائف القلق بأنه سر يشير إلى العالم الأعلى، ويرتبط بالتفاهة وانعدام الأمان في هذا العالم، والقلق هو شوق إلى عالم آخر وهو الهوة السحيقة بين اللاوجود وبين المتعالي، وهذا هو القلق الأصيل الذي يحمل في طياته شوقاً إلى الأبدية، وقد ينشأ هذا القلق في أقصى حالات البهجة والسرور عند الإنسان، وهناك قلق الليل الساكن الذي يتحول إلى جزع ويصفه برديائف بأنه قلق يمتاز بعمق وعلو، ولا تستطيع أي لغة إنسانية أن تنقله أو تعبّر عنه.

إنَّ الحياة في أبعادها الزمنية تنطوي على عنصر من القلق، فنحن عندما نواجه المستقبل لا يحركنا الأمل وحده، بل القلق أيضاً، لأن المستقبل قد يحمل الموت بين طياته في نهاية الأمر.

وهذا القلق الزماني قد لا ينشأ من الضعف، بل من فائض القوى غير المتحققة، ومن الشكوك وعدم التأكد في إمكانية تحقيقه؛ وهذا هو القلق الزائف أو غير الناضج كما يسميه برديائف.


القلق الأصيل والإبداع 

إنَّ ما يُعرف بالحياة هو تجسيد لِما هو مبتذل، وهو الذي يسيطر على هموم الناس والوجود اليومي، ولكن المتعالي حاضر في الحياة الإنسانية ويفعل فعله في الوجود الإنساني، ويتبدى في الأحلام والرؤى وأفكار الذاكرة. ينشأ القلق في غسق الحياة وضبابها، ثم لا يلبث أن يدفع الإنسان نحو المتعالي، والنشاط الإبداعي هو حركة الروح نحو هذا المتعالي الذي تكتسب فيه جميع الأشياء عمقاً ومعنى، وتساعد الإنسان في التحرر من ضغط المؤثرات الخارجية.

إنَّ الفن والحب والتجربة الدينية العميقة هي قيم تعلو فوق عالم التفاهة والابتذال، لكنها تحيا في القلق وتضرب عميقاً في ماساة الحياة وسرها الذي تصوغه العوامل الإلهيَّة، وهنا تكشف الروح عن حريتها وفعلها الخلّاق في اجتثاث جذور التناهي وتحويل نظرة الإنسان إلى ما هو أبدي.