فلسفةُ التحكيم الأدبيّ

ثقافة 2023/02/19
...

 محمد صابر عبيد

تنتشر الجوائز الأدبيّة على مستوى العالم انتشاراً واسعاً ومهماً وضرورياً لتشجيع الحراك الأدبيّ في سياقٍ نوعيّ ينطلق نحو التجديد والتحديث، وتتكون هذه الفعاليّة الأدبيّة من سلسلة من الحلقات تقف في مقدمتها قضية اختيار لجان التحكيم في كل جائزة، وهي تقوم على جملة من الاعتبارات والمعايير والأسس التي تضمن نتائج موضوعيّة ومنطقيّة قدر المستطاع، ضمن رؤية عامة تتقصد العدالة في معاينة النصوص المرشحة للجائزة بصرف النظر عن المؤلف وجنسيته وانتمائه وهويته، للحصول على نتائج تعطي لكل ذي حق حقه بوسائل علميّة بعيدة كل البعد عن المحاباة والمجاملة لأي سبب كان.

وصولاً إلى تحقيق الجوهر الفعليّ الأساس من هذه العمليّة الهادفة إلى تشجيع الأدباء نحو مراحل أفضل وأكثر تقدّماً وتطوّراً، تضع الحراك الأدبيّ العام في قلب الحراك الحضاريّ الذي تعيشه الأمّة.

تتصدّر مسألة اختيار المحكّمين قضايا عديدة تتعلّق بنوع الجائزة ومهمّتها ومقصدها وهويّتها وطموحها ومشروعها الأساس، إذ يسهم ذلك في توجيه البوصلة نحو فضاء الاختيار بناءً على جملة من الاعتبارات التي تتحكّم بفلسفة هذا الاختيار، وهي فلسفة تقوم على جملة اعتبارات تضع سقفاً أعلى لصورة المحكّم الذي يجب أن يُنتدَب لهذه المهمة، لكنّ مثل هذا السقف غالباً ما لا يتحقّق كي يعقبه نوع من التنازل عن السقف لأجل الوصول إلى انتخاب محكّمين تتوفّر فيهم أغلب الشروط أو أهمّها، بما يضمن سيراً طبيعيّاً لمراحل عمل

الجائزة.

لا بدَّ للمحكّم أن يدرك حجم المهمّة التي سيضطلع بها حين يمارس عمله على تقويم النصوص وتفضيل بعضها على البعض الآخر، إذ تتحكّم في هذه العمليّة سلسلة كبيرة من العوامل، بعضها ذاتيّ وبعضها موضوعيّ، تتدخّل على نحو سافر في توجيه آليّة الاختيار والتفضيل بما يحمّل المحكّم مسؤوليّة علميّة وأخلاقيّة في الوقت نفسه، ولذا على من يُرشّح للتحكيم أن يراجع نفسه أوّلاً محتكماً إلى ضميره الشخصيّ كي يكتشف إذا ما كان مؤهّلاً فعلاً للقيام بهذه المهمّة على أكمل وجه، وهي مسؤوليّة أخلاقيّة ينبغي أن تتجاوز أيّ تفكير بمكسب ماديّ أو معنويّ من وراء فعاليّة التحكيم، لأنّه إن لم يكن مؤهّلاً فعلاً وجاء ترشيحه بناءً على مصادفات شخصيّة أو زمنيّة أو مكانيّة أو غيرها؛ سيقترف خطايا كبيرة حين يفضّل عملاً على آخر من غير معرفة ولا وعي ولا رأي صواب، عندها سيمنح من لا يستحق ما لا يستحق ويحرم آخر يستحق فعلاً ممّا يستحق، وهذه بحدّ ذاتها جريمة ثقافيّة كبيرة تضع الأشياء في غير مسارها الصحيح وتربك كثيراً من المفاهيم في هذا السياق.

تنتمي هذه الفعاليّة الثقافيّة والأدبيّة المهمّة إلى فضاء المناخ الأدبيّ الذي يسعى إلى بناء تقاليد حيويّة تحرّك الجوّ الأدبيّ، وتثير حساسيّة التنافس الشريف بين الأعمال الأدبيّة المشاركة رغبة في الحصول على الجائزة الأدبيّة، على النحو الذي يشجّع الأدباء على الانتباه إلى نصوصهم وتطويرها بما يجعلها قادرة على المنافسة في ضوء الشروط التي تعلنها لجان هذه المسابقات، على الرغم من كلّ ما يُثار دائماً حول الجوائز من أقاويل وتشكيكات وتخوينات، بعضها صحيح وبعضها الآخر غير صحيح، وكلّما كانت لجان التحكيم مؤهّلة فعلاً ومنصِفة فإنّ منسوب التشكيك يقلّ كثيراً لثقة الكثيرين بأعضاء اللجان، بما يتوجّب على مسؤولي المسابقات الأدبيّة التحلّي بالموضوعيّة في اختيار لجان تحكيم على مستوى المسؤوليّة، وعدم التفريط بسمعة الجائزة ومسيرتها ومشروعها الثقافيّ والحضاريّ والتربويّ الرصين.

ينبغي على المحكّم أن يكون مؤهّلاً من نواحٍ عدّة للخوض في مجال تحكيم الأعمال الأدبيّة التي يُرشَّح لتحكيمها، لعلّ في مقدّمتها التخصّص الدقيق الذي يسمح له بالتمييز على أساس قوّة العمل الأدبيّ الفنيّة من حيث استجابته لشروط التشكيل الأجناسيّ أو النوعيّ، ومن ثمّ الاستعداد النفسيّ والذهنيّ والزمنيّ المتمثّل بقبول الترشيح والرغبة في توكيد معرفته النوعيّة حين يفاضل بين عمل أدبيّ وآخر، وربّما تحضر قضيّة الموضوعيّة بوصفها بدهيّة لا يمكن المساومة عليها مهما كانت الأسباب للحفاظ على أمانة الجائزة وبُعدها عن التحيّز مهما كان نوعه وشكله، ومن الشروط الأساسيّة الواجب توفّرها في المحكّم هو الصبر على قراءة الأعمال المرشّحة كاملة؛ مهما تبدّى لديه من قيمة معيّنة للعمل في المراحل الأولى من القراءة، وذلك لأنّ الأمانة تقتضي قراءة كاملة غير منقوصة إذ ربّما تكون نهاية العمل غير بدايته على نحو يقتضي تغييراً كبيراً في مسيرة الحكم الابتدائيّ الأوّل.

يأتي اختيار المحكّمين بناءً على فلسفة الجهة التي تمنح الجائزة، وهنا تتدخّل عوامل أخرى غير فنيّة وغير معرفيّة وغير أكاديميّة في فلسفة الاختيار، ولا سيّما حين تريد الجهة الداعمة من وراء دعمها الترويج لفكرة معيّنة تستدعي على نحو ما توجيهاً ضمنيّاً للمحكّمين يتحرّك نحو أعمال بعينها، ليس ضرورةً أن يكون الفارق الإبداعيّ الفنيّ هو الحاسم في تغليب عمل على آخر، بل مدة استجابة العمل للفكرة التي ترغب هذه الجهة الترويج لها وتكريسها والعمل فيما بعد على تداولها.

لكنّ هذا الأمر قد لا يصدق على الجوائز جميعها بالتأكيد، ولا بدّ من وجود جوائز لا تتبنّى فكرة أساسيّة يجري العمل على دفع المشاركين بالمسابقة إلى التوجّه نحوها، عندها لن يكون سوى الفارق الإبداعيّ بين الأعمال المرشَّحة سبباً أصيلاً للفوز بالجائزة، حين يتصدّى للتحكيم محكمّون يمتازون بالكفاءة والنزاهة والموضوعيّة والخبرة فلا يفوز وقتها إلّا من يستحق، ولا عزاء لغير الفائزين.