الاشتراكيّون الطوباويّون: روبرت أوين

ثقافة 2023/03/01
...


جون ستيفن كرايز


ترجمة: حيّان الغربيّ 



تبدو أفكار وأعمال روبرت أوين (1771 - 1858) لدى مقارنتها بأفكار الاشتراكيٍّ الطوباويٍّ المعاصر له، شارل فورييه، آتيةً من سياقٍ تاريخيٍّ مختلفٍ بصورةٍ جوهرية. وعلى الرغم من أنه انخرط في قطاع صناعة النسيج، إلا أنه لم يطرد من عمله أو ينفصل عن عالمه وينغمس في التأملات التجريدية، بل إنه أصبح واحداً من أنجح صناعيي القطن مرتقياً درجات السلّم الاجتماعي وحاصداً الثروة والمكانة الاجتماعية المعتبرة.
وقد تفوّق على فورييه من حيث إدراكه لتعقيدات إرساء الصناعة، التي تقبّلها بطريقةٍ أكثر إيجابيةً، كما أنه أبدى انفتاحاً أكبر تجاه الآلات والتقنيات والحقول المعرفية الجديدة إذ رأى فيها خطوةً إضافية على الطريق نحو تحقيق السعادة الإنسانية.

بيد أن أوين، في أيامه الأولى، لم يبدُ أكثر من مجرّد مالك مصنعٍ محسنٍ تكفّل موظفيه بالرعاية وأدخل الكثير من التحسينات على حياتهم، وقد تحدّث بلغةٍ ترددت فيها أصداء الاقتصاد الأخلاقي ما قبل الصناعي بما كاد يعكس رفضه للحضارة التجارية الحديثة. ولهذا السبب، اجتذب أوين اهتمام نبلاء الريف فضلاً عن السياسيين المناوئين للتحديث.

وقد تنامت شهرته بعد العام 1800 من خلال إدارته لمصنع نسيج في نيولانارك باسكتلندا، وأدخل تحسينات من قبيل تخفيض ساعات العمل، وتوفير شروط عمل أكثر صحةً وأماناً، فضلاً عن توفير الاستراحات الترفيهية، والمدارس للصغار والكبار، والتثقيف الأخلاقي، وصيانة المساكن وترميمها، وإنهاء عمل الأطفال، وخطط التأمين الممولة من خلال الخصم من الرواتب. ولعلّ ما يلفت الانتباه بشأن مصنع نيولانارك، هو أن أوين لم يحسّن حياة موظفيه من خلاله فحسب، وإنما نجح أيضاً في جني الأرباح. ولم تلبث نيولانارك أن أصبحت قبلةً للسيّاح الراغبين بالاطلاع عن كثب على تجربة أوين الاجتماعية في الإنتاج الناجح.

لعلّ مقته لنظام المصنع الحديث هو ما حثّه على اتخاذ القرار بتغييره جذرياً، فقد شجّع هذا النظام على التنصّل من المسؤولية الاجتماعية، والمنافسة المدمّرة، والفردانية اللاأخلاقية، بينما اتسم المجتمع ما قبل الصناعي، على النقيض من ذلك، بالضمير الاجتماعي الحي، والإيمان بأن ثمة أمراً إلهياً برعاية الفقراء والبؤساء، والإحساس القوي بالانتماء إلى مجتمعٍ يؤلّف بين الفئات العاملة. وفي عمله “نظرة جديدة للمجتمع” (1813)، أوصى أوين “بخطة واضحة بسيطةٍ عملية لا تنطوي على أي خطرٍ على أي فرد أو أي جزءٍ من المجتمع” وترمي إلى منح المفقرين الاستقلال والمقدرة على إعالة أنفسهم. وعلى الرغم من أنه حظي بدعم مناوئي الحداثة، إلا أنه سرعان ما اتضح أن القواسم المشتركة التي تجمع بين أفكاره وممارساته وبين الفكر الديمقراطي الراديكالي تفوق تلك التي تجمعها بالفكر الداعي إلى الحفاظ على الوضع القائم. وعلى غرار ما جرت عليه العادة في القرن الثامن عشر، رفض أوين المسيحية والتقاليد، مفضلاً الاهتداء بالعقل والطبيعة، وخلص إلى أنه من الممكن تغيير الطبيعة: فبما أننا جميعاً نتاج بيئتنا، إذن لكي نتغير لسنا بحاجةٍ إلا إلى تغيير البيئة، وقد أضحى هذا المذهب حجر الأساس لجميع النظريات والبرامج الاجتماعية خلال القرن التاسع عشر.

لكنه رفض أيضاً التشديد الديمقراطي الراديكالي على جهود المنافسة الفردية التي ثبت له، من خلال تجربته الشخصية، أنها تفضي إلى عواقب وخيمة. ففي حين أنه لم يكن على وفاقٍ مع توماس بين، وهو قد ذهب إلى أن المعيار الذي يجب أن يصمد أمامه أي نظام هو تحقيق أكبر قدرٍ من السعادة لأكبر عددٍ من الناس، بيد أنه لم يؤيد آدم سميث أو جيرمي بنثام في أن الطريقة المثلى لضمان السعادة الإنسانية هي بزيادة إنتاجية نظام السوق الحر. إذ إنه رأى أن التعاون والتخطيط المنسق كان ليسهم بشكلٍ أكبر في زيادة إنتاجية المجتمع وخدمة مصالحه.

تشبه أولى الخطط التي وضعها أوين حول مجتمعه الطوباوي تصوّرات فورييه حول جماعته بمعزلٍ عن ديناميات نظرية الجذب العاطفي. وقد أطلق على تلك المستوطنات “القرى التعاونية”، التي اتسمت بكونها مجتمعاتٍ زراعيةً مكتفيةً ذاتياً يمكن فيها للعاطلين عن العمل العثور على وظائف منتجة. وقد كان أوين واثقاً بأن قراه تلك لن تلبث أن تنتشر بسرعةٍ كبيرةٍ نظراً لأنها تقوم على العمل التعاوني ولأنها قادرةٌ على أن تبزّ المشاريع الخاصة من حيث الإنتاج. بيد أن تلك القرى لم تعمّ الأرجاء البريطانية، فقد تعذّر عليه تحصيل رأس المال الكافي من الحكومة كما أخفق في تلقّي مساعدة كبيرة من القطاع الخاص، لا بل أبدى قادة الطبقة العاملة أنفسهم شكوكهم حيال أوين، فهو لا يعدو كونه مالك مصنع في نهاية المطاف. وما بين العامين 1805 و1815، استضافت نيولانارك نحو 15000 زائر، وواصلت القرى جني الأرباح، بيد أن الفكرة لم تنتشر، ولعلّ موقع نيولانارك يعتبر واحداً من الأسباب التي حالت دون انتشارها، فقد اعتمدت المدينة على الطاقة المائية بدلاً من البخار، كما كانت تعج بالعمّال الذين توجّب استيرادهم إلى المنطقة بالمعنى الحرفي للكلمة. إذن ربما كانت المسألة مسألة توقيت، إذ كانت نيولانارك تعمل في ظروفٍ نموذجيةٍ بالنسبة للمراحل الأولى من إنتاج النسيج، ولكن مع الزحف السريع للثورة الصناعية سرعان ما باتت هذه الظروف باليةً وجديرةً بالهجران.

لا يصح أن نقول إن نيولانارك شكّلت تجربةً اشتراكية، فقد كانت ملكاً لأوين وشركائه، كما أنه تولّى إدارتها بنفسه بمساعدةٍ ديمقراطيةٍ محدودة من العمّال، وهكذا احتفظت الملكية الخاصة وحوافز الربح بتأثيرها على الرغم من الإجراءات الإنسانية التي طبّقها أوين دون شك. وبالتالي، لا يعد إخفاق نموذج نيولانارك في الانتشار إخفاقاً لنموذج اشتراكي حقاً، وإنما لنموذج أوين الأبوي الإنساني. كما تجدر الإشارة إلى أن العمّال الذين تم استحضارهم إلى نيولانارك كانوا من فئةٍ متجانسة، فجميعهم كانوا من العمّال الاسكتلنديين من ذوي الخلفية الكالفنية، الذين أظهروا ميلاً للانضباط وعدم التذمّر وتحسين الذات.

وفي مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، إثر خيبة أمله إزاء العمى الذي اتسم به الإنكليز، قرر أوين تأسيس مجتمع في أميركا. وهكذا، أبحر في العام 1824 إلى الولايات المتحدة، فاستقبل في واشنطن بجلبةٍ أكبر. ومن ثم، واصل طريقه إلى نيوهارموني، بإنديانا، حيث اشترى قطعة أرضٍ كبيرة. وغدت نيوهارموني المجتمع الأول والأشهر بين نحو ستة عشر مجتمعاً مما أسسه أوين في الولايات المتحدة بين العامين 1825 و1829. بيد أن أياً من هذه المجتمعات لم يستمر لأكثر من بضع سنوات بوصفها مجتمعاتٍ اشتراكيةً ناضجة. وانهارت نيوهارموني حين فرّ أحد شركاء أوين الأميركيين بجميع الأرباح. بيد أن نيوهارموني عانت من مشكلةٍ أخرى تتعلّق بالحوافز، فبينما حضر إليها العديد من العمال وهم مريدون مخلصون لنهج أوين، إلا أن عمالاً آخرين كانوا ينشدون الرقص والغناء واللهو فقط. وهكذا، اتضح له أنه لم يعد يتعامل مع العمّال الاسكتلنديين المجتهدين القنوعين. علاوةً على ذلك، أظهر الأميركيون القادمون من خلفيةٍ ديمقراطية تحفظاتهم حيال الإذعان لسلطة أوين، بصرف النظر عما إذا كانت أبويةً أم لا. ولم يمضِ أوين الكثير من الوقت في نيوهارموني، كما أن المشورة التي قدّمها لدى وصوله آلت إلى التجاهل والنسيان. وحين جوبه بالشقاقات والانشقاقات، حثّ سكّان المستعمرة على التفكير في ما يفعلون، فلعلهم يتبيّنون خطأهم ويثوبون إلى رشدهم. ولكن في نهاية المطاف، اتضح أن المبادئ الأزلية التي ادعى أوين اكتشافها لا تكفي للحفاظ على نيوهارموني. وفي العام 1828، تخلّى عن مغامرته الأميركية وعاد إلى إنكلترا، حيث انتهت به الحال منظّماً لفئات العمّال حتى وفاته بعد ثلاثين عاماً.