التواصلية لعقلنة الدينيّ والعلمانيّ معاً

ثقافة 2023/03/09
...

  حازم رعد

معلوم أن السمة الرئيسة للعالم بأشخاصه وأشيائه هي التدافع والتزاحم والتنافس المحموم بإرادة التفوق والغلبة، فالصراع المستمر يحكم أشياء ومكونات هذا العالم وثنائية الضدين تزين معالمه بشكل عام وتحكي محتواه، وهذا القانون ينعكس على المنظومة الاجتماعية أيضاً، وكذلك من جانب أكثر خصوصيَّة فإن الجماعات البشريَّة يعصف بها التعصب العرقي والتحجّر الديني والتطرّف الفكري وغير الديني.

 فضلاً عن طفح عالي المستوى ومتفرّع الاتجاهات في الميولات والرغبات المتنافرة، وهذا الحال يتنبّأ إلى إعفاء البُعد المعنوي «الإنساني» للاجتماع الإنساني في نهاية الأمر وانحسار حضور فاعليَّة القيم والجانب الخلقي أو مآله إلى التناقص بسبب حراك التفوق والمنافسة الشرهة والغلبة للمصالح الشخصيّة الفرديّة فحسب وغض النظر عن البُعد الجماعاتي والخلقي وعدم إيلاء اهتمام لمشاركة الآخرين همومهم والشعور بهم كحضور وحاجة ملحة في المعيش اليومي.

فاذا لم تكن توجد ضوابط متفقة تضبط تلك المتناقضات لصالح سيادة الوفاق والانسجام، فالمؤكد أنّه سيكون الحسم من صالح التشتت والتشظي وغياب المساواة وسيادة البُعد المادي الشره وسيطرته على الواقع.

وعلى طول الخط اشتغل الفلاسفة على ايجاد حلول ومعالجات جذريّة أو راهنة لهذه الإشكاليّة التي تشكل معضلة كوود داخل الوضع البشري مما أضنى عيش الإنسان وزادته ارهاقاً ونغصت عليه كل تفاصيله في الما يحدث واليومي والذاتي والبينذاتي وتنذر المستقبل بمخاوف شتى، ولذا فإنَّ العلم بالقوانين التي تحكم المجتمع وتنظم حركته وتدير هذه الصراعات حقل مهم داخل الجهد الفلسفي.

وعلى إثر ذلك أي في سياق ايجاد معالجات للمشكلات والصعوبات التي تعصف بالعالم والواقع تقدم الفيلسوف الالماني «يورغن هابرماس» وهو من الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت بمشروع جديد يقف فيه بمستوى واحد من كلا فاهمة الفريقين «الديني والعلماني» بوصفهما الطرفين الذين يشكلان مجمل المنظومة الإنسانيّة، فالناس ينقسمون بين ديني وآخر مادي أو لا ديني مع اختلافات شديدة أو طفيفة متفاوتة، يدشن يورغن هابرماس مصطلح «مجتمع ما  بعد  العلمانية» يوضح من خلاله حاجة الاجتماع البشري إلى ضرورة حضور الديني بوصفه واقعا قائما سببته عوامل عديدة ليس الآن محل ذكرها. 

كما أن الملاحظ وجود تأثير للدين في المجتمعات المعاصرة ناتج عن الأزمات وهموم الذات والاغتراب وغيرها مما لا مناص من التغاضي عنها.

وهذا المفهوم لا يعني أن الحضارة الإنسانية قد تجاوزت مرحلة العلمانية في تسلسل رتبي «يحدث فيها قطيعة بين مرحلة وأخرى تليها» أي ليس معنى ما بعد العلمانية هو التخلي عن الدنيوي لصالح الديني، ولكنها مرحلة إعادة تقييم النظرية التقليدية للعلمانية أو هي مساق في التحول النقدي والمراجعة التصحيحيَّة للعلمانية في علاقتها مع استمرار وجود ما هو «غيبي» وقد عولج هذا المشروع بمقدمتين اساسيتين تشكلان معاً عصب النظرية هما:

الأول: هو عقلنة الدين. 

والثاني: الاقلال من تطرّف العلمانيَّة.

يعتقد هابرماس أن للفاعليتين أعلاه نقاط ضعف وخلل في إطار فهم عناصر البنية التي يتعكزان عليها وأنها أي “البنية التأسيسية” بحاجة لتقويم واعادة صياغة بشكل مقبول على مستوى عام كونها بحاجة لمزيد من التنظير والتنظيم الذي يدمكها بالواقع منسجمة مع التحولات المستمرة ضمن حاجة الإنسان.

فالقراءات الدينيَّة بحاجة إلى أن تكون موضوعية بشكل أكبر في فهمها للنصوص وتأويلها لغرض مواكبة الراهن ومماشاته والابتعاد عن التعصب وأن تقرأ النصوص بطريقة تعزز الاعتراف بالآخر لا أن تلغيه وتحدد حضوره.  

وكذلك بحاجة إلى وعي يستوعب الآخر “العلماني وحتى الملحد” وتقبله كشريك حتمي مفروغ من وجوده أو نظير في الإنسانية، ولا يمكن بأي صورة التنكر لذلك، لأن مؤداه احتكار للحقيقة واختزال للآخر ومن ثم إقصاؤه، فما بعد العلمانيَّة كما يقول عالم الاجتماع الأمريكي بيرغر (حالة وعي معاصر تتعايش فيه الرؤى الكونيَّة الدينيَّة مع الرؤية العلمانيَّة للكون) وبغير هذا الفهم أو القراءة تسود حالة التوتر المستمرة وعدم لاستقرار الاجتماعي الذي بدوره ينعكس سلباً على منظومة الأمن والسياسة.

وكذلك فإنَّ العلمانيَّة عليها الاعتراف وتقبل أن أصولها الأساسية هي أساساً صناعة دينيَّة وليست من إبداعاتها الخاصة فما (لله لله وما لقيصر لقيصر وفصل الدين عن الدولة) معطى للمسيحية وإن كان قد يؤخذ عليها أنها قراءات جاءت فيما بعد المسيح، إلا أنها في النهاية معطى ديني ولسان نطقت به النصوص الدينية أو مستلة منه، على كل حال إن ذلك ما يختصر لنا مشهد أن جذور العلمانيّة دينيّة خالصة وأنه لا يمكن القفز على هذه الحقيقة.

وكذلك ثانياً أن على “العلمانيَّة” ألّا تزدري “الديني” وتحط من شأنه لثقله الكبير في الواقع ولكون ذلك لا ينسجم مع ما تدعو إليه العلمانيَّة من الاختيار الحر للإنسان والوقوف بحياد أمام المتعلقات الشخصيّة والخصوصيَّة، وألا تتبنى فكراً أو تعمل بممارسة من شأنها إقصاء المختلف. 

فالإقلال من تحجّرها أزاء الديني عامل آخر يسهم في إرساء جو من تبادل الثقة وفتح آفاق للحوار والنقاش من أجل تدشين المشترك الإنساني.

وقد طرحت في هذا السياق قراءات مشابهة تحل من هذه الاشكالية وهو ما يطلق عليه “العلمانيَّة المرنة” أو “الديمقراطيَّة الشعبيَّة” والتي يكون محتواها قابلا للتمدد واستيعاب الآخر وقبوله على ما هو عليه ضمن دائرة الانساني والفضاء العمومي، ويمكن من خلال النقاش والتواصل ربط الدنيوي مع الديني غير المتطرّف أو الذي لا ينظر معرفيّاً لتأسيس أطر معرفيَّة لتشييدات الدولة الدينيّة، فيقوم الاثنان على صياغة سقوف عامة يحتاجها الجميع في استمرار الشأن العام من خلال النقاش والتشاور والتفاهم ضمن ذلك الإطار العام. 

لتتحصل بالنتيجة إرساء قواعد لعيش مشترك عقلاني مقبول للأيدولوجيتين تحت مظلة إنسانيّة تسع الجميع.

ولكي ينجز هذا المشروع كما يرى هابرماس يحتاج إلى تجسير فجوة الوثاقة بين الأطراف وردم الخواصر الرخوة المؤدية للتباعد وفقدان الطمأنينة للآخر. وعملية بناء الثقة بين أطراف الحوار داخل المنظومة الاجتماعية، وتحديداً “المجال العام” برأي هابرماس تحتاج إلى عاملين أساسيين لكي تتم النتائج كما مطلوب: 

- تحسين الظروف المادية. 

- وتنمية الثقافة السياسية. 

وهذا واجب يقع على عاتق الدولة من خلال أجهزتها المتنوعة ضمن خطط مدروسة والتي يفترض أن تعمل بمهنية عالية وحيادية تامة بعيداً عن الاملاءات أو التحيّز، فلكي تتم عملية التحسين الاجتماعية المادية وإن تتم عملية التنمية لا بدَّ مؤسسات رصينة تعي حجم المسؤولية الموكول لها، وأن تتوفر لديها خطط وخبراء ومتخصصون، وأن تتقبل النقد المستمر من بعض المؤسسات والشخصيات الفاعلية مهنياً واجتماعياً، وأن تجري مراجعات مستمرة على برامجها المطروحة.

مجتمع هابرماس ما بعد العلماني “كما يقول الدكتور عبد الجواد ياسين” يقوم -إذن- على تفكيك “الدوجما” المتحجّرة لدى الدين والعلمانيَّة كليهما، في إطار نظام سياسي ديمقراطي يكفل حضور العقلانيَّة، كما يكفل حضور المعتقدات الدينيَّة وخصوصياتها من دون أن تكون معياراً للتشريع أو التعامل مع الآخر.ويتمّ كلّ ذلك ضمن سيرورة قائمة في جوهرها على [نقاش تشاوري تحت جامع شمولي وهو الإنسانيّة و “بدستور شعبي علماني” والتي أهم إفرازاتها الديمقراطية وحقوق الإنسان] على أن يكون ذلك النقاش والتشاور في ظروف جادة وحرة يشترك فيها الجميع [مؤسسات وسيطة وفاعلين استراتيجيين أو ناشطين مهمين يمثلون الرأي العام أو يحققون الإرادة العامة] ولا يهمش فيها أي إنسان مهما كان معتقده وانتماءه لتتم مداولات الشأن العام بين الأطراف جميعها.

وينبغي ألا نظن البتة أن “الما بعد العلمانية” نقض للعلمانية واجتراح مختلف عنها وانما توسعه لإفاقها بوسائط وانساق مختلفة، فما يكون هناك قائما على إدارة مؤسسة الدولة وتدبير شؤونها بعيداً عن الاعتبار للمعتقدات والعواطف وأنماط الأبعاد الاجتماعية يكون هنا في الما بعد علمانيّة، معتبراً لها أيما اعتبار مهم فتتداخل تصورات جميع المختلف في بناء المؤسسة ونواة المشترك الإنساني واستبعاد فرص التشظي والتشتت فهي ألما بعد علمانيّة كما يقول “ديبوج» انفتاح من دون تحفظ على المعتقدات الدينيَّة.

ومما ينبغي ألا نشك في أن «ما بعد العلمانيَّة» اختلافها رتبي تصاعدي تطوري يحسب من معطيات سياق النقد للعلمانيَّة بوصفها فكرة منفتحة وليست ايديولوجيا منغلقة على نفسها، كما قد يصور للبعض أو يعتقد على أنّها كذلك، والسماح للنقد والمراجعة التصحيحيَّة عليها يفضي إلى تلك المقاربات والتصورات التي تضع الأشياء في نصابها بحسب ما تفرضه ضرورة الواقع وفهم لليومي ولتطلعات الناس المشتركة وقد أفضت إلى انتاج رؤية الما بعد

علمانيَّة.