الخوف من الثقافة

ثقافة 2023/03/19
...

  علي العقباني


 قدمت الثقافة خلال السنوات الـ 13 الماضية على الأقل مثالاً فاضحاً وصارخاً عن الدور الذي يمكن أن تقوم به الثقافة بمعناها العام ودورها التنويري والحداثي وعن غيابها المقلق في الساحات العامة لصالح قوى ظلاميّة وسلفيّة واستبداديّة بشعة، فمن خلال تلك الظروف الاستثنائية العاصفة، التي ألمت بعالمنا العربي، بدا بارزاً أن الثقافة والفنون السبعة أو الثمانية وهي الفاعل المؤثر في الناس اختفت أو غُيبت أو غابت أو توقفت عند نقطة ما من عصور ظلاميّة غير مبشّرة بالحياة الحقيقيّة، وساد إلى حد كبير مفهوم ثقافة الخوف عموما وثقافة الخوف من الثقافة بشكل خاص.

تتشكل ثقافة الخوف من تراتبيّة تاريخيّة واجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة مرتبطة بالتربية والمجتمع والموروث الاجتماعي والديني ثم ترتبط بعرى وثيقة مع السلطة التي تكثف ثقافة الخوف لجعلها أيقونة اجتماعيّة وفكريذة تضمن بقائها، فالدين يُورث في الناس الخوف من الآخرة والسلطة تُورث في الناس الخوف من المستقبل، ومن الحاضر أيضاً بخلقها حالة من الترقب والتبعية والتقديس لهالة أو لهالات من المنظومات القيميّة والسياسيّة والشخصيّة، في حين يسهم المجتمع في الخوف كسلسلة لا متناهية من الأعراف والقوانين والموروثات الاجتماعية التي تشكل البنى الهرمية والتراتبية للمجتمع، ذلك يعد الخروج من دائرة الخوف عملا مغامراً

واستثنائياً. 

في الجانب الآخر من الموضوع الأكثر خطورة تأتي منظومة ثقافة الخوف من الثقافة، وما قد يصاحبها من العزلة والانطواء والانكفاء نحو الذات وغيرها، خصوصاً في ظل سيادة ذاك الخطاب الفئوي أو الطائفي أو السلطوي أو السلفي المهادن منه أو المتسلح بالعنف وغير المتصالح مع نفسه ومع الآخرين وغير المتسامح وغير القابل 

للحوار.

من أين تأتي ثقافة الخوف من الثقافة، ومن الذي يشتغل عليها في الظاهر والعلن، من له المصلحة في إبقاء الثقافة أما في برج عاجي بعيدة عن الناس أو منبوذة بحكم أحكام مسبقة ربما تعززها بعض الممارسات التي يقوم بها المثقفون وربما تزيحها إلى الهامش، وإذا عدنا إلى الثقافة وبعيداً عن تعاريفها المتعددة والكثيرة واشتغال الكتاب والمفكرين عليها كمفردة جامعة، فأينما نظرت ترى كلاما عن تراجع دور المثقف أو انكفائه عن عزلة ذاتية مفرطة أو كتابة ما لا يمكن للعامة قراته أو الوصول إليهم، ذلك يصب في ذات خانة تكريس الخوف من الثقافة.

عندما امتد التيار اليساري في المشرق العربي وبات تياراً قوياً وذا حضور في الأوساط الشبابية عملت قوى السلطة والظلاميات الموازية على بث شائعات وتصورات عن عالم يعيش به هؤلاء اليساريون المثقفون من انحلال أخلاقي والحاد وتصرفات منافية للأخلاق والمجتمع، الأمر الذي فعل فعله عبر سنوات طويلة بخلق رأي عام نافر من اليسار الثقافي، ومع انكفاء التيار القومي نحو إسلام مبطّن بغلاف عروبي وتقدمي واشتراكي وشعارات براقة أصبحت الثقافة اليسارية المعارضة بين فكي كماشة أو أكثر وانعزلت في أماكن ضيقة قلما تسرّبت وبانت وظهرت في هذا الحدث 

أو ذاك.

تتكرّس ثقافة الخوف من الثقافة لدى الحكومات التي نلمح إلى حد بعيد تعاملها من الثقافة كشعارات وولاءات وتعبئة أوقات فراغ ومطبوعات تنشر ما تتم مراقبته بذهنية سلطوية أو دينية بعيداً عن دوائر الإبداع قريبة من دوائر الخوف من أي كلمة تهرب من هنا أو هناك، عززت ذلك الأحداث الدامية والعاصفة فيما بعد 2011 وصعود تيارات اسلاموية متطرفة ودموية في مواجهة قوى السلطة الدكتاتورية والدموية أيضاً وانعزل الفكر والثقافة بعيدا، ذاك أن تلك الحرب ليست مكانهما، ولكن إذا اقتربنا أكثر سنجد أن أهم سبب في تلك الحرب الدموية القذرة ثقافي بحت، فقد أهملت الدولة الأطراف على حساب المركز التجاري والسياسي والاقتصادي وتركت الهامش والأطراف يرفدون المدينة عمالة وعمالاً بينما يُصنع في أماكنهم عالم خاص متزمت وأصولي يقوده جهلة في الدين والحياة، أصبحت كلماتهم نافذة عند الناس كباراً وصغاراً، متعلمين وجهلة، من دون نقاش أو تفكير، جموع تابعة أما لشيخ جاهل أو لسياسي منافق، تلك معادلة حكمت غياب الثقافة الحقيقية فكراً وفنا وأدباً وبجميع أشكال الفنون المشكلة للحياة في جوهرها الحق وأصبحنا نستورد الجوع والجهل ونصدر الخوف كمنتج ثقافي سياسي ديني مركب، فالخوف من الثقافة بات سمة عامة لدى الكاتب والقارئ والسلطة معاً ولا يمكن بناء المجتمع إلا بالخروج من هذه 

المعضلة.