الفريد هيتشكوك.. حين يكون المرعب جميلاً

منصة 2023/04/03
...

  تبارك سلمان


لا أحد أبدا يتنكر لألفريد هيتشكوك بصفته أحد أعظم العقول في تاريخ التصوير السينمائي.. وسيد التشويق بلا منازع.. الصدمة والتشويق كلاهما يلعبان في تقنياته ويخلقان هذا النوع من التشويق والتوقع الذي قد يكون مرهقا للأعصاب من دون أن يغفل أو يتجاهل الصدمة الفجائية التي تحدث في سياق الحدث. 

"ألفريد هيتشكوك" هو واحد من أفضل المخرجين في تاريخ صناعة السينما. فقد امتلك لمسة فنيّة خاصّة في كل من مشاهد أفلامه التي جعلته يبرز كمخرج لامع.

وهناك طرق عديدة وتقنيات يمكن القول بأنّها قد خلقت التشويق في أفلام هيتشكوك، إنها تلك التفاصيل الصغيرة التي ساعدت في خلق حالة التوتّر والترقّب التي عهدناها في أفلامه والتي قال إنه كان يهدف لإيصالها للجمهور.

هذه هي أهم التقنيات التي استخدمها، وبالأدق استحدثها هيتشكوك في أفلامه لتصبح بعدها من قواعد العمل السينمائي، وهو ما سنعرضه هنا حسب أهمية التقنية وأثرها في عالم السينما بصرف النظر عن تاريخ استخدامها للمرة الأولى من قبل هيتشكوك.

فالتكبير والتتبع العكسي باستخدام حركة الدولي (تأثير فيرتيجو).

كان من المستحيل تجاهل هذه الحركة وعدم وضعها في النص، على الرغم من كونها في المرتبة الأخيرة لكن ذلك يرجع الى كونها أصبح يُساء استخدامها من قِبل صانعي الأفلام، عدا عن الاستخدام المُبالغ فيه لها. فبعد أن افرج عنها فيلم (فيرتيجو - الدوار) أصبحنا نراها في كثير من الأفلام. تجدر الإشارة الى أن هذه التقنية حصلت على عدة أسماء مثل:  Zolly   والفكّ المفترس ولقطة التتبع العكسي. لكن الأكيد أن أصولها تبدأ من هذه التحفة الهتشكوكيّة.

تقنية التتبع العكسي في أحد أشهر مشاهد الممثل المعروف "جيمس ستيوارت" وهو يركض الدرج متسلّقاً بينما كان يُعاني من دُوار شديد بسبب فصل صادم عاشه في حياته. مع صعوده الدرج ينظر لأسفل ليرى كم أصبح ارتفاعه، هنا يعطينا المُخرج المشهد من وجهة نظر البطل التي تعطينا احساساً بما يشعر ويُفكّر الممثل. ولتقريب هذا الشعور تم استخدام تأثير فيرتيجو عن طريق عمل ( Zoom out- الابتعاد عن المنظور) في الوقت نفسه الذي تتحرك فيه الـكاميرا للداخل، أو العكس بالعكس.

بعد سنوات من صدور هذا الفيلم لهيتشكوك بدأ مُخرجون آخرون استخدام هذه الحركة في افلامهم، لعلّ اشهرهم فيلم (الفك المفترس Jaws لسبيلبيرغ)، وفيلم (Goodfellas الأصدقاء الجيدون) لسكورسيزي، حتّى أننا يمكننا القول إنّها أصبحت غير رائجة الآن في وقتنا الحاضر، لكنها أبداً لم تفقد بريقها الذي ظهرت به في فيلم (  Vertigoفيرتيجو).

* تقديم غامض لشخصيات فيلم Strangers on a train  -  غرباء في القطار 

قد يبدو هذا ليس ذا أهميّة بالنسبة للبعض، لكن في الحقيقة أن هذه الافتتاحية لها عدة أمور تجعلها مثيرة للاهتمام، فالفيلم يحكي قصّة رجل يلتقي بلاعب تنس على متن قطار ويقنعه بارتكاب جريمة قتل محكمة التخطيط. المميز في مقدمة الفيلم هو التسلسل الغريب الذي نشاهده للتعرف على بطلي الفيلم، حيث أننا لا نرى وجوههما، فقط نرى أقدامهما من الركبة وأسفل، ويمكننا التمييز بينهما من حذاء كل منهما. استمرا بالسير بممرات مختلفة حتّى التقيا بارتطام الحذائين اللذين كنا نتابعهما قبل قليل. هنا يجتمعان وتبدأ القصّة.

هذه طريقة بسيطة لكنّها عبقرية من هيتشكوك لربط الشخصيتين معاً فقط من خلال الكاميرا والمونتاج. هاتان الشخصيّتان تلتقيان بسلاسة وتحت أعين المُشاهدين!

* الضوء داخل الحليب يشكك المشاهد في فيلم Suspicion - اشتباه

هو فيلم يحكي قصّة امرأة تشكّ في أنّ زوجها يريد قتلها. هناك مشهد واحد في هذا الفيلم جعلنا نذكره هنا. هنا المشهد حيث تستلقي شخصيّة جون فولتين الشرير خائفة من السيّئ القادم، بينما زوجها (الذي يلعب دوره كاري غرانت) يجلب لها كأساً من الحليب. الكاميرا تلحق بكاري غرانت وهو يصعد الدرج حاملاً الكوب بيده، وبينما هو يصعد يبرز شيء غريب في كأس الحليب انه مضيء ومُشرق وواضح جدّاً داخل اطار الشاشة. هل هو يحاول تسميمها؟ بالتأكيد هذا ما فكّرنا فيه للوهلة الأولى.

في الحقيقة هذا كان هدف هيتشكوك من البداية، وضع ضوءاً داخل الكأس ليجعلنا نعتقد بهذا الاعتقاد ونتساءل حول ما الذي سوف يحدث الآن؟ انها حيلة بسيطة، لكنّها بارعة جدّاً.

* دوّامة الكاميرا تعبير عن الإرباك في فيلم The Wrong Man -  الرجل الخطأ

لسبب ما، نجد هذا الفيلم دائماً تحت المجهر، الفيلم يناقش قضية هيتشكوك المُفضّلة: رجل أُتّهم عن طريق الخطأ. هنري فورد هنا يلعب دور الرجل الذي لديه شبه واضح بمجرم هارب. عندما يُزج به في السجن بسبب جريمة لم يقترفها ينجح هيتشكوك في إدخال المُشاهد الى عقل وتفكير الرجل من خلال حركة وعمل الكاميرا. هذا عندما يُدرك فوندا أنه لا شيء يمكنه فعله حيال الأمر، انه عاجز تماماً ولا يمكنه اثبات براءته. يسند رأسه على جدار السجن، تبدأ الكاميرا بالدوران والدوران بتسارع ملحوظ مع الموسيقى المصاحبة، ينجح هيتشكوك في إعطاء المشاهد شعوراً بالإرباك يدرك أن سببه هو شعور البطل بالضياع. كذلك استخدام نظام اللقطة المزدوجة في الفيلم نفسه مرة أخرى، الرجل الخطأ، هذه المرة نجد شخصيّة هنري فوندا في الفيلم تعاني من هبوط وخمول حاد. لم يستطع اثبات براءته بعد. يقرر الصلاة من أجل أن يعطيه الله الأمل، وأثناء فعله لهذا تندمج مع صورته صورة القاتل الأصلي، ويستمر المشهد حتّى تتقاطع وتتحد تفاصيل وجهيهما معاً.

مرة أخرى يقوم هيتشكوك بصنع اصطدام بين شخصيتين من عالمين مختلفين في مشهد واحد من خلال عمل الكاميرا.

* لو أخذنا تريلر فيلم (  Psychoالمريض نفسيا) على سبيل المثال، طوله ست دقائق، وكل ما فيه هو هيتشكوك نفسه يأخذنا في جولة في المكان الذي تم تصوير فيه الفيلم. بتهيأتنا باستخدام حسّه الدعابي الأسود يقوم بتهيئتنا للذعر ويجعلنا ننتقل معه جنبًا الى جنب حتى نجد جانيت لي تصرخ في الحمّام. لا يُظهر لك لقطة من الفيلم نفسه ويقوم باستفزازك من اجل مشاهدته. الشيء نفسه في فيلم ( The Birdsالطيور) نجده يتحدّث عن بعض الحقائق عن الطيور في لقطة ثابتة تماماً، هناك بعض المونتاج يحدث عندما يجلس ليأكل دجاجة على الطاولة، ثم يكمل حديثه مختبراً صبر المشاهدين بطريقة سلسة ومحببة نادراً ما ينجو منها المخرجون من دون انتقادات. هكذا يمكنك صنع تريلر جيّد، يجلب التشويق لرؤية الفيلم ويكشف عن فنان يقف وراءه.

* السقف الشفّاف في فيلم The Lodger - المستأجر

هذا الفيلم الصامت من عام 1927 هو الذي وصفه هيتشكوك نفسه بأنّه أوّل صورة سينمائيّة يقدمها على الاطلاق. هنا نعالج قضيّة هيتشكوك نفسها التي تحدثنا عنها مسبقا، الرجل الذي أُتّهم زوراً، ونكتشف صاحبة النزل التي تشتبه بكون هذا المُستأجر الجديد هو قاتل النساء في البلدة. هناك مشهد رائع عندما تبدأ صاحبة النزل بالشك بهذا المُستأجر لتسمع فجأة هي واثنان معها صوت خطوات أعلى السقف ثم ينظرون جميعهم للأعلى ويتساءلون ماذا يفعل يا تُرى قبل أن يتحول السقف الخشبي الى سقف شفاف نرى فيه الرجل يمشي ذهاباً وايابا. هذا المشهد تم صنعه بواسطة لوح زجاجي مشى عليه الممثل ليخلق هذا الوهم حول اختراق الكاميرا لسطح الغرفة. المذهل في هذا المشهد ليس كونه صُنع في عام 1927، بل لأن المشاهدين دُمجوا داخل الحدث تماماً كما أراد المُخرج وجعلهم يتساءلون حتماً: ما الذي يفعله هذا الرجل؟