كولن ولسون: الوجوديَّة الجديدة وفينومينولوجيا الوعي المزدوج

ثقافة 2023/04/05
...

أوس حسن


 قد يجد الباحث عن الفكر الفلسفي في أعمال الكاتب والروائي الإنجليزي كولن ولسون صعوبة في الإمساك بأيِّ فكرة مركزيَّة، وتحديداً تلك التي تخصّ أفكاره في الوجوديَّة الجديدة، والسبب في هذا الأمر هو أنَّ ولسون كاتب متعدد المسارات وكتاباته ثريَّة ومتنوعة بين علم النفس والأدب الروائي والتاريخ والجنس والجريمة، وصولاً إلى علوم الباراسيكولوجي والظواهر الخارقة. فالقارئ لتاريخ الفلسفة الوجوديَّة برمّتها قد اعتاد على أنماط معروفة لديه في ذلك الفكر الذي زود القارئ بمفاهيم مثل القلق واليأس والعدم والوجود، لكن في خضم هذا الضجيج  والتشابك المعرفي عند ولسون قد يجد المتأمل عالماً حقيقياً لا ينفصل مناخه عن الأجواء الوجوديَّة ذات النزعة اللاعقلانيَّة المنفلتة من رتابة العلم وجموده، وهذا ما سيدفعنا للدخول إلى عالم الوجوديَّة الخارقة عند ولسون؛ عالم الإرادة التي تتجه إلى قيمة الوجود ومعناه، فالمعنى شيء يجب التدرب عليه كما يقول ولسون.

 لقد وجّه صاحب اللامنتمي نقداً حاداً للفلسفة لا يقلّ حدةً وقسوةً عن نقد نيتشه للفلاسفة من قبله، وظل ناقماً على نزعة التشاؤم والعدميَّة للفلاسفة الوجوديين، لأنهم لم يتوصلوا إلى حل يضع نهاية لأزمة المعنى في الفلسفة الوجوديَّة. 

جاء ولسون ليؤكد أنَّ الإنسان يملك طاقات كبيرة وقدرات عقليَّة لامحدودة قد تسهم في تطوير الوعي الإنساني، لذلك فلا بدَّ للفيلسوف أن يتقدم بروح تفاؤليَّة للكشف عن قدرات الإنسان الحيَّة بوصفها الملاذ الوحيد الذي يسبغ المعنى على الحياة، بل أنَّ العالم برمته يصبح مشحوناً بهالة من السحر والجمال الغامض عندما تكشف تلك القدرات عن معانٍ متعددة في هذا الوجود.

اللامنتمي وأزمة الحضارة 

تعدّ مشكلة اللامنتمي مشكلة وجوديَّة بالدرجة الأساس، تلك المشكلة التي لم يلتفت إليها الوجوديون وأصبحت عقبة حقيقيَّة لجميع المبدعين والفلاسفة في العصر الحديث.

لقد عالج ولسون أزمة المعنى في الوجوديَّة، وارتأى أنَّ الفلاسفة الوجوديين قد تركوا الإنسان ضائعاً بين مفترق طرق لا يؤدي إلى هدف، فمشكلة المعنى ظلت تدور في حلقة مفرغة من الوعي السلبي المنقوص، ومن الحريَّة المجردة من الفعل، فلا وجود للحريَّة إن لم تتحدد بمعنى يتعلق بالحياة، وإن لم يكن هناك إيمان بعظمة الذات وقدرتها على إضفاء القيمة العليا للوجود الإنساني.

إنَّ الوجوديين كانت تعوزهم التجربة الحقيقيَّة لاختبار الوعي الفعّال في العلاقة المضطربة بين الذات والمحيط الاجتماعي، ففشلوا في إدراك أنفسهم، وسقطوا في جحيم العدميَّة واللاانتماء. 

فمن هو اللامنتمي وما سبب الهوّة الكبيرة بينه وبين المجتمع في الحضارة الحديثة؟

يتطرق كولن ولسون في كتابه الشهير “اللامنتمي” إلى عزلة المبدعين وانفصالهم عن المجتمع ويرى أنَّ اللامنتمي هو تلك الشخصيَّة التي تتسم بالقلق والتوتر إلى درجة عالية، وهذا التوتر ينبع من عدم انسجام القيم الروحيَّة التي يمتلكها المبدع مع الأسس الواهية التي يقوم عليها المجتمع، ومع رغبته الخفيَّة في أن يعيش حياة طبيعيَّة كباقي البشر، فالمبدع رغم 

تفرده وأصالته، إلا أنَّ رغبةً تحدوه في حياة اجتماعيَّة مع ذوات أخرى تفهمه وتتآلف معه، لكن مشكلة اللامنتمي أنه ذو حساسيَّة مرعبة، ورؤيته تكمن في الحياة القائمة على التفاهة والضجر، فتبدأ رؤيته بالتشكل عن حقيقة العالم ويستولي عليه شعور طاغٍ بالعدميَّة.

إنَّ اللامنتمي يدخل في صراع مزدوج بين الجانب الروحي فيه مع الجانب المادي الحيواني، فيذهب عادةً إما إلى التطرف في قبول الحياة أو التطرف في رفضها، وقد عالج ولسون كلتا الحالتين، عازياً السبب إلى مشكلة الحريَّة، لأنَّ اللامنتمي يريد الخلاص من كونه لامنتمياً  فعالم اللاانتماء يضغط عليه ويصيبه بالرعب، لذا فهو بحاجة إلى الحريَّة.

يصنف كولن ولسون اللامنتمي إلى صنفين وهما: الرومانسي الذي يؤمن بإمكانيَّة تحرره من المأزق الوجودي من خلال الوعي والمواهب الذاتيَّة، والواقعي الذي عادة ما يستسلم أمام ضعفه وعدميته عندما يؤمن بانتفاء كلِّ قيمة للعالم، وهذا اللامنتمي عادةً ما يستثير إرادة معكوسة تنزع نحو العنف أو الانتحار.

 اللامنتمي هو أحد إفرازات الحضارة الحديثة والتطور التكنولوجي؛ تلك الحضارة التي أوهمت الإنسان بأنه يعيش في رغد ورفاهيَّة عن طريق تلبية حاجات زائفة ووهميَّة مقابل سرقة الوعي وقتل كل محفزات الإرادة الإنسانيَّة التي تحرّك الركود وتخلق الإبداع.

إنَّ النزعات الميكانيكيَّة والماديَّة في الحضارة ساهمت في سحق القيم الإنسانيَّة، ودفن أشكال غير مكتشفة من الكينونة وطاقاتها المبدعة، الأمر الذي أدى إلى عزلة اللامنتمي وغربته، لأنَّ سلوكه لا يحظى بالقبول العام في المجتمع، وبما أنَّ مشكلة اللامنتمي هي الحرية، فإنه يرى نفسه مكبلاً  بالضجر والتفاهة وسيطرة ما هو عام ومبتذل.

إنَّ الحضارة التي تزداد فيها عزلة اللامنتمين واغترابهم؛ تكون عرضة للتفكك والتحلل، فالحضارات تتحلل لأنَّ النوابغ يتخلون عنها. عكس ما كنّا نشاهده في الأديان والحضارات القديمة التي يصبح فيها المبدعون واللامنتمون قادة روحيين ومرشدين لبناء الحضارة وتماسك أركانها.

ومن هنا يؤكد ولسون أنَّ الحضارة التي تكون فاعليتها إيجابيَّة ومؤثرة، يجب أن تفسح مجالاً  لقيم النوابغ واللامنتمين، وأن توظف تلك القيم في تماسك بنيتها، وتوجهها إلى حياة إنسانيَّة ذات مغزى ودلالة.

 وبناءً عليه فاللامنتمي برأي ولسون لا ينبغي له التنازل إلى البنية الاجتماعيَّة، ولا عن مطالبه المشروعة، لكنَّ الحلَّ يكمن في البنية الاجتماعيَّة ذاتها التي يجب أن يحصل فيها تغيير وإصلاح بالاعتماد على إمكانات الفرد وقدراته الإبداعيَّة.

الحريَّة والمعنى 

يربط ولسون مشكلة اللامنتمي بالوعي، ويرى بشكل عام أنَّ الوعي الإنساني ليس حراً، بل يبقى مقيداً بالوجود الموضوعي الخارجي، أما الوجود الذاتي فهو الوجود العميق وغير المدرك للفرد. لكنَّ الوجود الذاتي والموضوعي لا ينفصلان عن بعضهما، والتجربة الذاتيَّة كفيلة بأن تجعل هذا الوجود واحداً، فالتجربة يجب أن تعاش وأن تمارس، بهذه الطريقة يمكن للامنتمي أن يخرج من عزلته معلناً عن حريته الخالقة للمعنى، فالتحرر من اللاجدوى يكمن في التوجه إلى العالم باعتقاد راسخ أنَّ هناك معنى مبهماً يكمن في هذا العالم.

لكن لا يجب الانخراط التام في العالم الموضوعي لأنه يؤدي إلى ذوبان الذات في الحياة الاجتماعيَّة، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف الإرادة وقدرتها على الخلق والإبداع، ولا يجب أيضاً التطرف في العزلة والانكفاء الذاتي، لأنه سيصبح مبعث انهزام واستسلام أمام الحياة وطاقات الوعي التي يمتلكها الإنسان.

إنَّ الإرادة هي التي تقود اللامنتمي للتوجه إلى الحياة، وهذه الإرادة تعمل على دمج الوجود الذاتي غير المدرك مع الوجود الموضوعي، ولكي تكون الإرادة في حالة حركة يجب أن تكون هناك مستثيرات تحفزها من الخارج بحيث تصبح تلك الإرادة مولدة للرؤى من خلال تكثيف الأحاسيس والتركيز العميق، فعندما نتأمل منظراً طبيعياً خارجياً أو نشاهد لوحة فنيَّة أو نستمع إلى مقطوعة موسيقيَّة؛ تتوحد الذات مع تلك الأشياء وتبدأ المخيلة بتوليد رموز تجعلنا نشعر بوجودنا في عدة أمكنة وأزمنة فيصبح الوعي مضاعفاً وتنكشف لنا الأشياء وكأننا نراها لأول مرة، فنبقى مبهورين ومحاطين بسحرها.

 وهناك إرادة تستثيرها الأزمات أو الخطر الذي يتعرّض له الفرد والمجتمع، فتنبثق طاقات كامنة وغير مكتشفة في العقل تعمل على تنقية الأحاسيس وصفائها، بحيث تعلو تلك الأحاسيس على مدركاتنا الحسيَّة اليوميَّة لتجعل كلَّ شيء من حولنا ينبض بالنشوة والغبطة.

وهنا يعلق ولسون على تلك الحالات من النشوة بأنها تجعل الحياة كومضة شعريَّة تنبثق فيها المعاني المستترة.

إنَّ تلك اللحظات التي تلوح فيها الرؤى للإنسان تعمل على تطوير الوعي الإنساني، وفي نفس الوقت تدلنا على إمكانات وقدرات غير مكتشفة في العقل البشري، وهذه الإمكانات ليست متاحة للشعراء والمتصوفة والقديسين فقط، وإنما لجميع الناس، فحتى ما يُسمى بالظواهر الخارقة يصنفها ولسون على أنها قدرات عقليَّة إنسانيَّة من الممكن أن يمتلكها الجميع، فلا تعد خارقة أو سحريَّة إذا أولى العلم الاهتمام بها ودراستها.

تعمل ميكانيكيَّة التكرار أو ما يسمى بالروتين اليومي على امتصاص ثراء الوعي، كذلك فإنَّ الانفعالات السلبيَّة كالغضب والخوف والكراهيَّة تعد إسرافاً لقدرة الإنسان وحيويته.

على الإنسان أن يدرك أنه سجين ميكانيكيته وضعفه وعذابه، لذلك فهو بحاجة دائماً إلى الحريَّة النابعة من الإرادة.

يقول ولسون: إنَّ الناس يشعرون أحياناً  بلحظات من الرؤيا الداخليَّة، ومن اليقين والوثوق بالحياة العامة، وهذا أمر يدل ضمنياً على أنَّ حالة الوعي العاديَّة التي يعيشها الناس فقيرة وناقصة.

لقد أراد ولسون من العلم أن يتوجه أكثر إلى الإنسان، ليسبر أغوار وجوده الذاتي، ويكشف عن ملكة ذاتيَّة تتصل بالوعي المتسع، وقد رأى في المنهج الظاهراتي أولى الخطوات نحو هذا المشروع الكبير للوجوديَّة التطوريَّة والارتقاء بالكائن الإنساني. 

فحياة ذات قيمة عالية جديرة بالإنسان وغايته القصوى في هذا العالم.

 الوعي المتسع.. والمنهج الظاهراتي 

اعتمد ولسون كثيراً على المنهج الظاهراتي عند هوسرل، وتحديداً في مفهوم قصديَّة الوعي، فالوعي عادة ما يتجه إلى الأشياء في العالم الخارجي ليقصدها، والأشياء موجودة في الخارج ليقصدها الوعي.

والوعي هنا اختياري في القصد يقوم بالاحتفاظ بعناصر وصفات معينة ويهمل الباقي أو لا يتوجه إليه، معتمداً في ذلك على مجمل خبراتنا الكليَّة التي تحيط بماهيَّة هذا الشيء.

فعندما ننظر إلى مجموعة أشياء مبعثرة على طاولة فإنَّ وعينا يحتفظ بمجموعة من العناصر وينسى الباقي، كذلك فإنَّ الاستجابة الحسيَّة للجمال تكون عن طريق بعض الرموز التي تفرضها المخيلة على الذات، لتعطيها بعداً واقعياً وحقيقياً، فمثلاً عندما يستثيرنا منظر جمالي معين كالجبال والغابات والأنهار؛ فإنَّ هناك عناصر معينة هي من تجذبنا كتناسق الألوان والأشكال وغيرها من الصفات. إنَّ هذه الأشياء موجودة في الأصل فينا، وتحظى رمزيتها وصورها بقبول في المخيلة.

من هنا جاء ولسون بمبدأ يعمل على توسيع شبكة الوعي، فالوعي له طبيعة علائقية، أي أنه يكتسب معاني وحقائق الأشياء حينما يدرك ترابطها مع عناصر مماثلة في العقل، فالاستجابة لموضوعات خارجيَّة يتوقف على خلق روابط بينها وبين مناطق خاملة في العقل.

لذا يرى ولسون أنَّ من الضروري توسيع الوعي بالتركيز القصدي على الموضوعات، فيزداد الاهتمام والتركيز بالشيء المدرك، بعد أن كان يمثل حالة لا مبالاة في السابق، حينها قد يستطيع الإنسان أن يتخلص من وعيه السلبي الأحادي، وأن يدرك العلاقات التي يتشكل بها المعنى الحقيقي للأشياء. وقد اقترح ولسون بناء نظام لغوي يصف العوالم الجديدة التي يكتشفها الوعي الإنساني، إذ إنَّ هناك حقائق كثيرة لم تتوصل إليها اللغة بعد، ولا توجد بنية لغويَّة بإمكانها التعبير عن الحالات الوجوديَّة الباطنيَّة كالرؤيا وبعض الإشراقات الصوفيَّة.

يشير ولسون إلى أنَّ هناك حقيقة ما غير قابلة للإدراك العادي بالنسبة للإنسان، وهذا الإدراك لا يأتي إلا من وعي عميق متسع يولد فينا طاقة روحيَّة لحياة أكثر وفرة وأكثر معنى.