صناعة نصوص لا تتعدى مجرد حكاية

منصة 2023/04/11
...

  عمار الثويني


ليست ثمة أدنى شك أن الرواية هي النمط الأدبي الأكثر تكاملا وإبداعا والفن التي تجمع مظلتها، بفضل التطورات الكبيرة التي شهدتها خاصة في الأوان الأخير، كل العلوم الإنسانيَّة والمعرفيَّة والإبداعيَّة. الرواية أرض خصبة معطاء، ومثلما تمنح الأرض ما لذ وطاب من نتاج غزير إذا ما نالت العناية، فإن الرواية، إذا ما حظيت هي الأخرى باهتمام وعناية من صائغها، ستهب نصوصًا مبهرة، وتاريخ السرد يشهد بذلك بوجود أعمال ظلت خالدة بعد مئات السنين رحيل مبدعيها. 


النصوص العظيمة يصنعها مبدعون ملكوا خيالًا واسعًا وقدرًا عظيمًا من المعرفة في الثيمة التي يكتبون عنها. تتمثل إحدى هفوات كتابة الرواية بالتعامل معها كنصٍّ لا يتعدى فضاء الحكاية ويفتقر إلى سمات تقنيَّة عدّة، مثل التكثيف واللغة العاليَّة، والحوارات والمونولوجات التي تشي بإرهاصات نفسيَّة عميقة، وكذلك انعدام البناء الفني المتراص والشيق. الحكاية جزء مهم من الرواية وقائدة أوركسترا السرد لكنها ليست العنصر الوحيد، فمثلما التكنولوجيا عصب الأجهزة، لن تستطيع هذه التكنولوجيا وحدها منح جهاز متكامل. 

من الأعمال التي تفتقر، من وجهة نظري، إلى الاشتغال على الجوانب الفنيَّة للرواية ويعوزها التعاطي مع حوادث التاريخ بحرفيَّة عالية هي رواية سفر برلك للروائي مقبول العلوي الصادرة عن دار الساقي عام 2019 ودخلت القائمة الطويلة للبوكر العربية 2020 وجائزة الشيخ زايد للآداب السنة ذاتها. تتمحور هذه الرواية حول محنة الفتى ذيب الذي اختطفته عصابات بيع العبيد بحكم بشرته السمراء من مكة المكرمة وأُقتيد إلى المدينة المنورة لبيعه في سوق النخاسة. وهناك يشتريه أحد الفضلاء، الوجيه عبد الرحمن المدني، ويشغله في نسخ المخطوطات بعدما يكتشف قدرته على القراءة والكتابة. في ذلك الوقت، 1915 تتعرض المدينة المنورة للاحتلال العثماني فتعيش أيامًا قاسية تضوّعًا وحصارًا وتنطلق خلالها قوات الاحتلال بحملة تهجير جماعي للسكان، "سفر برلك"، إلى دمشق لكل من يصادفونه من نساء ورجال وأطفال عبر القطار، فيقع ذيب في أحد الأيّام في قبضتهم ليُرحل إلى هناك ويعيش مغامرة أخرى حتى عودته بعد سنوات. 

حادثة "سفر برلك" من الحوادث التاريخيَّة المفصليَّة التي عاشتها الجزيرة والمنطقة العربيَّة ككل فترة الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين، وكنت أتمنى لو عالجها الروائي بطريقة سرديَّة عميقة وسلط الضوء على الارهاصات الاجتماعيَّة والنفسيَّة والسياسيَّة في تلك الفترة، وهو الأمر الذي يحتاج لقراءة أوسع للمصادر العديدة التي تناولت تلك الحادثة، وإلى قدر أكبر من التخييل وليس مجرد حكاية بهذه البساطة. الرواية التاريخيَّة تنطلق مع عدسة ضيقة لتصور فضاءً واسعًا لكن ما حصل أنَّ الروائي اتخذ مقاربة معكوسة فالتقط صورًا ضيقة جدًّا لمجتمع واسع وحوادث متعددة عندما تقمّط في شخصية ذيب ولم يستطع الخروج من شرنقته. كان ذيب وكذلك بقية الشخصيات القليلة أشبه بدمى متحركة على مسرح، مجرد هيئات بشريَّة تتحرّك بتكلّف وتتحدث بتكلّف وليس ثمة مشاعر ومناجات باطنيَّة تكشف هواجسها ومخاوفها. وفيما يلي بعض الملاحظات التي رصدتها: 

أولًا: الرواية تقع في أكثر من 150 صفحة وإذا ما استثنينا البداية والفراغات العديدة بين الفصول (38 فصلًا قصيرًا) وما أكثرها عالجت في البداية وفي أكثر من ثلث العمل مشكلة ذيب واسترقاقه ما جعل حادثة سفر برلك مجرد حكاية وسط حكايات أخرى وليست الثيمة الرئيسة وكان الأحرى اختصار القصة الأولى والتركيز على الثانية. 

ثانيًا: وردت كلمة مخطوط/ مخطوطات عشرات المرات من دون أي يذكر لنا اسم لمخطوط واحد أو تفاصيل بعض الحوادث اليوميَّة التي تحصل معه خلال عمله مهما كانت بسيطة لأنَّ مثل هذه التفاصيل تنقلنا من جو الحكاية إلى الرواية عبر تصوير دقيق للمشهد المسرود: انسكاب الحبر، الشك في كلمة وسؤال الوجيه عبد الرحمن عنها، بعض العبارات والمفردات التي أثارت اهتمامه ويمكن اقتباسها في النص، التساؤل في أعمار المخطوطات.  ثالثًا: إذا ما استثنينا التساهل في التعامل مع المخطوطات التي هي أنفس ما يملكه صاحب المكتبات والسماح لفتاه التنقل حاملًا في مشوار شبه يومي بين منزل الوجيه عبد الرحمن ومكتبة عارف حكمت والعودة بها، أليس من دواعي الحيطة والحذر أن يمنع فتاه من حمل هذه المخطوطات أو حتى التنقل عندما خضعت المدينة المنورة للاحتلال العثماني وبدأت عمليات التهجير القسري "سفر برلك" لك من يصادفونه؟ صحيح أن الوجيه في المرة الأخيرة التي أُعتقل فيها ذيب طلب من الأخير الحذر خلال نقلها إلى مكتبة عارف، قائلًا له إنه مخطوطات مهمة جدًّا، لكن أليس من دواعي الحذر الشديد التريث في هذه الخطوة؟ لم يفسر لنا ما أهميتها ولماذا يرسلها هكذا في هذا الوقت بالذات عند اشتداد حملة التسفير. لماذا لم يأخذ في الاعتبار قوات الجيش الذين ملأوا الشوارع والطرقات لتهجير السكان وربما يفقد الاثنين؟ وهذا ما حصل.

رابعًا: ثمة اضطراب واضح في تقنية السرد ص 79 بالتحديد إذ يتحول من السارد الأول (غير العليم) إلى العليم فيصف مكتب فخري باشا القائد العثماني الذي احتل المدينة المنورة في فقرات عديدة وبدقة كبيرة كأنه، أي ذيب، جالس وسطهم، (يغضب، يصيح بمساعده، يشتم العرب، يأمر مساعده بوضع شريط أمني من جهات المدينة الغربيَّة والشرقيَّة والجنوبيَّة، إقفال الحوانيت والدكاكين لتجويع الناس، منع البيع، مصادرة كل شيء حتى التمر، إلخ، فنفذ المساعد هذه الأوامر، وشكل قوة في الحارات والأحوشة وهجم على الدكاكين وصادر منها كل شيء...). هذا السرد بتفاصيل دقيقة تأتي على لسان الراوي العليم حسب. وإذا ما سلمنا أن الروائي زاوج بين التقنيتين، هو تقنية تحتاج إلى تناغمٍ عالٍ، لكن في الصفحة ذاتها يقول ذيب، حينما سمع الشيخ عبد الرحمن المدني [وصفه الآن الشيخ وكان ينعته بالوجيه] قال ساهمًا، "ماذا يعني ذلك؟" لم أستطع أن أقدم أي جوانب حين نقلتُ له هذه التطورات التي راقبتها ورأيتها بنفسي عن كثب. (ص81) وهنا أسأل مستعينا بعبارة "كيف رآه؟"، التي تساءل فيها المعلّق الشهير خالد الحيد في لقطة أسيست ميسي الشهيرة لزميله مولينا في مباراة الأرجنتين وهولندا التي سجل منها الأخير الهدف الثاني. وتتكرر هذه التقريريَّة في ص91 عندما يتحدث عن عودة الجنود، ويبدو أن الكاتب يقع في هذا الاضطراب في تقنية السرد كما لاحظتها في عمله السابق زهور فان غوخ. 

خامسًا: يصف الفصل 29 في الصفحات 107- 110 حالة القبض على ذيب وتسفيره بعدما مضى بالمخطوطات النفيسة إلى مكتبة حكمت فوجدها مغلقة. (لا أدري لماذا ترسل المخطوطات بالجملة؟) هناك قبض عليه الجنود الأتراك وأوسعوه ضربًا واقتادوه إلى محطة القطار لتسفيره. لا أعلم لماذا حملها جندي خلفه لتسليمها له لحظة تسفيره؟ لو عرفوا قيمتها لصادروها، وإذا جهلوها، فلماذا يكترث أحد الجنود بحملها له خلال هذا المشوار؟ لماذا لم يسأله أحد عند محتواها أو يفتش فيها؟ هذا التساؤل ذاته يعيدنا إلى مشهد الوجيه عبد الرحمن ص74 كما ينقله ذيب ويتحدث عن حالة الأول النفسية واضطرابه، حيث قال: "لقد أعلن شريف مكة وولداه الثورة العربية على الحكم العثماني". كان هنا يتحدث إلى فتى وإلى الخادمة مرجانة الحبشيَّة وكلاهما لم يفقها ما قاله لهما، بل لم يبال الوجيه بشرح الأمر لفتاه عندما كرره عليه معنى تصريحه. 

سادسًا: لو استعان الروائي بتقنية الأصوات المتعددة (البوليفونية) كما فعل مثلًا عبد الوهاب عيساوي في روايته الديون الإسبرطي، أو كتبها بتقنية الراوي العليم أو زاوج بين التقنيتين بطريقة متناغمة لكان أفضل من سرد حادثة تاريخيَّة كبرى بسارد محدود الأفق ولبات لدينا نص متكامل وعميق وليس متسرّعا، والاستفادة من قدرات الروائي الواضحة، خاصة اللغة الأدبيَّة العاليَّة.