عبد الله المحنا
في العصور الوسطى من الحضارة الإسلاميَّة أظهر بعض الزنادقة كلامًا حول النبي موسى، وهو أنَّ موسى كان في لسانه عجمة وتلعثم؛ وبهذا طعن هؤلاء بنبوة موسى، لأنَّ هذه العجمة تعد "نقصًا" أدّت إلى ضعف في رسالته.
ولكي تُدحَض هذهِ الشُبهَة، قال بعض المتكلمين إن هذا ليس نقصًا فيه، إنّما كل ما في الأمر أن آسيا أرادت يومًا أن تنقذ موسى من فرعون، فأشارت إليه بوضع جمرة في فمه، وقالوا بهذه القصّة بعد تخبّط في الآراء، فبعض المتكلمين قالوا إنَّ موسى عانى من تلعثم من كلامه بعد أن رأى فرعون وما عليه من الأُبّهة.
هذه القصة كان أحد المشايخ قد رواها لي، وهو رجل دين محترم وأستاذ في علم الكلام، وقد قالها على سبيل أن يواسيني ويُشجّعني، لما رآني من ذوي الإعاقة، ولكنني ما زلت أقاوم صعوبات هذه الدنيا.
وقد ظلت هذه القصة كالطنين في أذني، وبقيت أتأمل بها حتى الآن.
إنَّ موسى، لأنَّه كان من ذوي الإعاقة اللفظيَّة والبدنيَّة من حيث أن القرآن صرّح عدّة مرّات أنّه يخاف والخائف لديه إشكالية مرضية بدنية عضوية أو نفسية، فقد كلّمه الله لكي يواسيه، ولم يكتفِ بذلك، بل حماه عدة مرات وأنزل عليه الأمان حينما خاف أن يقتل، وليس هذا فحسب، بل إنَّ صفة الربوبيَّة تجلت لجبل موسى وخر صعقًا، ومن فهمي للآية القرآنيَّة أنّه خرَّ صعقًا لكي يعرف حدوده، فكأن الله قال له إنّي قد كلمتك وأمنتك، فلا ترجو أكثر مما نويت في رجائك، وكأنه اختبار للناس من خلال موسى، على سبيل إيَّاك أعني واسمعي يا جارة.
وبعض المفسّرين يرى أن موسى حينما دعا قائلًا: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي؛ قال الله له: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ، فشفي من مرضه.
وهذا لكي يبرأ المفسرون المتقدمون رسالة موسى من النقص بالطبع، ويظهروه بمظهر غير المريض، لأنَّ المريض فيه منقصة، والصحيح من الصحة والعافية والدهاء؛ وكما قيل: إن العقل السليم في الجسم السليم، وغيرها من الكلمات البالية التي دحضها الواقع اليوم. وقد أشعل هذا الشيخ تأملا آخر داخل رأسي، وقال أضف إلى موسى، فإنَّ الله أحيانًا يختبر الآخرين بذوي العلامات البارزة، وسماها آيات، وأوضح آية هي كلمة الله المسيح ابن مريم، فاليهود كانوا يطعنون في نسب عيسى ويجدونها منقصة فيه، وهذا باتفاق المسلمين والمسيحيين، لذلك وحتى يتم لجم هذه الشبهة؛ قال المسيحيون إنَّ عيسى ابن الله، والمسيحيون يقولون إنه ليس ابنه من النسب، بينما المسلمون لكي يدحضوا شبهة اليهود قالوا كما قال القرآن: إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ؛خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ.
فمن ذا يعترض على سبيل المثال ويقول عن آدم إنه بلا عشيرة؟ فهل هذا يعتبر منقصة فيه؟!
أحد الإخوة من ذوي الإعاقة أسرّ لي قائلًا ذات يوم: كل شيء ضدنا نحن المعاقين حتى الأديان! فبدأت أسرد له هذه القصة، وفي واقع الحال أن ليس الله ضدنا، بل هو والدين معنا، ولدينا حصة من النبوة كما مر؛ ولكن المجتمع ضدنا مع شديد الأسف، هذا المجتمع السقيم الذي إذا رمى أحد المغترين بنفسه حياته إلى التهلكة؛ رموا بحياتهم أيضًا.
لقد أصّل هذا المجتمع العداوة لذوي الإعاقة لدرجة أنّهُ حرّق عليهم الأجواء العامة، فصار المعاق لا يدرس، ولا يقرأ، ولا يُعيِّن في القطاعات المختلفة، فيجدونه عاهةً، وثقلًا عليهم، ويبدؤون بتحطيمه إذا كان صلبًا جسدًا، ويذرونه بالهواء إن كان هشًا رذاذًا.
وهذا ليس من باب الحنق على هذا المجتمع إنما من باب الأخبار عن حال المعاق في العراق الذي لا يدرس ويجد عزمه على الدراسة على سبيل أنه يزاحم الآخرين.
ما زلتُ أذكر بعضهم يقولون لي لماذا تدرس وأنت معاق، فقلت وهل أموت؟
واليوم أنا في كلية القانون، وسوف أتخرج عن قريب، وارتاد الدراسات العليا، وأُدرِّس في الكليات على قدر الاستطاعة إن شاء الله، وأطلب العلم حتى تبلغ روحي الحلقوم، ولن أكلّ ولا أملّ أيضًا؛ وهذا أفضل ما يقدمه المعاقون لهذه الدنيا صامدين أمام ما يُقال عنهم فيها.
علينا كمعاقين أن نعي أن الدنيا ليست لسائر الناس فقط، وان الله وفقًا للدين جعلنا آية من عنده، وضرب للناس الأمثال بواسطتنا، وعليه يجب أن نكون امتحانًا حقيقيًا، وان يكون كل منا موسى، نحارب من تجبر بالأرض بواسطة العصا الصغيرة، وهو القلم، فنغرق المتنمّرين أو من لا يريد لشوكتنا القوة أجمعين.
فنحن لسنا "بلاء" فقط أو ابتلاء لهذا المجتمع الذي آخذه الله بنا، بل امتحان هذه الدنيا، كنا الدنيا بعينها، ونحن الحياة، ونحن المستقبل، فالذين اختبر الله ضمير الناس من خلالهم هم نحن.
هذا ما يجب وعيه، وهو تحدي الناس، لكي نذكرهم بحدودهم، وكيف ينظرون لامتحاناتهم بشكل جيِّد وثم يعاملوننا بذات الشكل فيحصلون على درجات جيدة.
ذلك يكون من خلال ما نقدر عليه من العلم.