يقظان التقي
بأسى عميق لدى الوسطين السياسي والإعلامي، وفي زمن الندوب والجروح السورية، غابت مؤخرا بسمة قضماني (2023 - 1958)، عن عمر 65 عاما، بعد صرع مع مرض السرطان استمر سنوات.
رحلت الاكاديميَّة، أستاذة العلاقات الدوليَّة والاستراتيجيَّة في جامعة السوربون خلال أكثر من 15 عاما، الباحثة، والمعارضة الناشطة، على فجاءة، وعلى دهشة من أصدقائها وآخرين، عندما اجتاحها الموت، كأن تسأل من أين يأتي هذا الأخير، هذا الحزن في سوريا، الذي يأتي من كل الجهات مجتمعا. رحلت في زمن الألم وتردادات الزلازل، التي اصابت الاجتماع السوري الحديث.
امرأة تتمتع بقوة الأفكار والحضور، حائزة جائزة ريمون جوريس للإبداع في العمل المجتمعي عام 2011، لدورها في تأسيس مبادرة الاصلاح العربي، والمساهمة في دعم الديمقراطية في المجتمعات العربية. ابنة الدبلوماسيَّة الدمشقيَّة الشعبيَّة، شاركت بفعالية منذ اندلاع الثورة السورية 2011، وقبلها في سلسلة مؤلفات وكتابات بالفرنسية عن "الشعب الفلسطيني في المنفى"، 1998، وبتواصليَّة مع الإعلام المكتوب والمرئي والاذاعي قوية، وتألقت محللّة سياسيّة في كبريات الصحف الفرنسية اليومية والأسبوعية، وعلى شاشات التلفزة العالمية. لم تتنازل عن اقتناعاتها الوطنية، وترجمتها بإضافة فضاءات واسعة لمزاج آخر مميز بصدقيته، وتلك الموضوعية، يسنّد القضية السورية، ويشيّدها في امكنة عديدة، جزءا من تفاعل مطلوب بين مختلف الاختبارات السياسيَّة والثقافيَّة والفكريَّة. قدمت الكثير لسوريا، نجحت في تجسيد ما تريد أن تجسده، بأفكار الحريَّة، والمجتمع التعددي المفتوح، وبلغة الجذور وتحولاتها المستقلة، وفي صيرورتها التقدميَّة، التي دافعت عنها. عبرت القضماني عن روح الأجيال الشابة، وشاركتها الحلم بالتغيير في سنواتها الأخيرة، وبتثقافية مع مفهوم الدولة الديمقراطية والعادلة.
لم تكتئب في كتاباتها، على خط التماس المباشر والعميق مع قضايا الثورة وغيرها، بقوة المرأة نفسها والتجربة الإنسانيَّة، وبتلك السوسيولوجيا الثوريَّة النابضة، على الرغم من مجازات التناقض في الداخل والخارج، منذ تحول باراك اوباما عن خطه الأحمر عام 2013، بشأن الاسلحة الكيماوية، متبوعا بالتدخل العسكري الروسي، والتوغل الايراني لدعم النظام القائم. عناصر أخرى فوق التوتر، والغضب، واليأس، والوجع، لا سيما في الساحة السورية ونتواءاتها الحادة، وتعرجاتها المتقطعة، واضطربات عمل المعارضة السورية التي رفضت ترأس امرأة. بقيت بسمة القضماني المناضلة متصالحة من نفسها، من خارج الالتزامات العاطفيَّة الفوريَّة. تقرأها بتلك الرؤية الواضحة، وبعناصر بنيويَّة، مشددّة بالثقة بتجربة السوريين الأحرار، وعلى تحفز دائم، لأنَّ ما يجري "تراكم أجيال جديدة مناضلة، حصيلة السكون المضطرب". كانت مؤمنة بضرورة العودة إلى الديمقراطية لتجاوز الوضع المعقد في سوريا، وعلى فهم ودراية بمكونات البلاد، وأن المسألة تتعلق بمرحلة تاريخيَّة قديمة انتهت، تخاطب زملاءها وأصدقاءها والإعلاميين بنبرة تتنفسها مثل الهواء، وفي لحظات قوية جدا.
كأنّها تتحرك بسوريا خطوات إلى الأمام، وبانطباعات رائعة، وبانفعال عاطفي، من دون الانفصال عن الناس بعيدا كثيرا عن الأرض، حين تركت حارتها السورية، وانتقلت طويلا الى باريس تحاضر وتكتب، يؤخذ رأيها في قضايا شرق أوسطية ودولية، وفي كيفية السيطرة على الموقف. ولها لغتها الخاصة، سواء كانت ثقافية، سياسية، حسية، أم وجودية، متصافية مع ذاتها، في عمقها، الاسم الذي سيبقى في صفوف النسوة السوريات المناضلات، والدرس، الذي استخلصته بسوريا الحرة سيبقى، وليست وحدها في هذه الحالة.
امرأة ذلك الفضاء الواسع من تشكيل ثقافي وسياسي، تحركت فيه تقاطعا مربكا مع جماعة الاخوان المسلمين في سوريا، وفي أمكنة عديدة تشهد تحولات، وبالحس النقدي لزملائها في المعارضة السورية، في وقت ما زالت معركة الثورة السورية في أوضاعها السائدة، جولة أخرى من انتصار النكبات بين براميل متفجرة على المدن لسنوات، ومدن تنتظر جهود الاغاثة ومساعدات انسانية. سوريا تحتاج الى بسمة، بكل ما تحمله العبارة من شجاعة، بذلك الحس النقدي للظواهر السياسية والوقائع، وهي عرفت رحمها الله، كيف تجيد استقراءها، واستخلاصها خلال سنوات عطائها الثلاثين وأكثر، شكلت جزءا مهما بين المثقفين، من ذلك التفاعل المطلوب بين مختلف الاختبارات السياسية، والثقافية، والفكرية، وفي تقبل الآخر، كموحى للتعددية المنشودة في سوريا. لقاء التنوع، الالتزام المميز في الأزمنة والامكنة، التي ترفض المقولات التوتاليتارية.