ما يثير الدهشة أنَّ الإمام علي {ع} سبق الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع في تحديد مواصفات الحاكم، بل أنني أعدّه أول وأفضل من حدَّدَ قيم الحاكم وسلامته النفسيَّة والعقليَّة والجسديَّة في تاريخ الإسلام. وحكمنا هذا قائمٌ على دراسة تحليليَّة لنص عهد الإمام علي لمالك الأشتر في كتاب نهج البلاغة، تضمن مجموعة قيمٍ هدف منها الى تحقيق ما توصل إليه علماء النفس المعاصرون في ثلاث قضايا أساسيَّة:
الأولى: أنْ يتمثل الحاكم القيم الإيجابيَّة في شخصيته بوصفه القدوة التي تتماهى به الرعية وتقلده.
والثانية: توكيده أنَّ القيم هي التي تحدد سلوك الحاكم مع الرعية، وهي التي تحدد موقف الرعية منه.
والثالثة: أنَّ القيم هي الرابط أو (الأسمنت) الذي يوحّد أفراد المجتمع، وبدونها يتهرأ النسيج الاجتماعي وتشيع الكراهية والعنف والعدوان.
والحكمة في اختيار الإمام لمالك الاشتر النخعي لأنْ يكون والياً على مصر هو فشل الوالي السابق قيس بن سعد بن عبادة، ومنها يمكن أنْ ندرك فطنة الخليفة علي في اختيار ولاته. بمعنى أدق أنَّه اعتمد القاعدة الذهبيَّة في التصنيف والاختيار، نعني "وضع الرجل المناسب في المكان المناسب".
والمدهش ثانية أنَّ عهد الخليفة علي لمالك الأشتر يقدم مآثر في فلسفة الحكم وسيكولوجية الحاكم. ففي قوله (لا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم..)، فإنه يطرح مقياساً كاملاً للعدالة فيه بعدٌ سيكولوجيٌّ هو أنْ يضع الحاكم نفسه موضع المحكوم، فيكره له ما يكرهه لنفسه.
والتقط حقيقة سيكولوجيَّة بثلاث مفردات في قوله (اجتنب ما تنكر أمثاله).. أي عدم فعل ما لا تحب أنْ يفعله الآخرون بك.. ويذكّر الذين جاؤوا الى السلطة من داخل الشعب أنَّهم كانوا قبل ذلك يثيرون النقد ضد سيئات الحاكم السابق، فيدعوهم الى ألا ينسوا مواقعهم النقديَّة السابقة ويصغون الى النقد الآتي من القاعدة الشعبية، فضلاً عن نصيحة أخرى بقوله (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك).
ومن مآثره الخالدة في احترام إنسانيَّة الإنسان التي تضمنها العهد وسبق بها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية قوله: (فالناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق..).. ففي هذه الوصية التي جاءت بتلخيص محكم، جامع، مانع، دليل نظري وسياسي مرشد وملهم لكل حاكم في كل مكان وزمان. مع الانتباه الى أنَّ فكرة (النظير في الخلق) تظاهي فكرة (الأخوة في الدين) ما يعني أنها تضع أساساً لديمقراطية العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع وتحدد الإطار الحقيقي لحرية الاعتقاد الديني والمذهبي والفكري لجميع الأفراد، بما يشيع السلام والتفاؤل بين الناس.
سلام الله عليك يا أبا الحسنين.. ما أحوجنا الى أنْ نأخذ بنصائحك.