أعِدْ.. أعِدْ

ثقافة 2023/04/16
...

 د. أحمد جارالله ياسين 

 

في أكثر من مناسبة شعرية حضرناها قُرئت نصوص عديدة في موضوعات مختلفة وتفاوتت استجابة اغلبية الجمهور للنصوص وكيفية تلقيها والتفاعل معها.

لكن - وبغض النظر عن الشكل الفني للنصوص ما بين عمودي وحر وقصيدة نثر- لاحظنا أيضا في مناسبة أخيرة، أن (أغلبية) من الجمهور استجابت بشكل كبير وتفاعلت وصفقت للمقاطع الشعرية ذات البعد الجنسي الحسِّي الذي يخصُّ التصوير البلاغي لأعضاء المرأة الحساسة أو يوحي بلاغيا بسلوكيات الذكورة في التعامل الغزلي معها.. والتقرب الحميم منها..

هذه الملاحظة لو نضعها في منظور (النقد الثقافي) بوصفها تشخِّص نسقا ثقافيا مهيمنا تحت المظهر البلاغي الجمالي نستنتج ما يأتي:

   إنَّ الاقتراب من هذه الموضوعات الحسّاسة (في الظاهر) اجتماعيا وأخلاقيا.. غير مرغوب فيه إذا كان بلغة مباشرة.. لكنه مقبول ولذيذ على مستوى التلقي إذا كان الاقتراب مغلفاً بطبقات البلاغة، وفي ذلك الموقف النسقي ازدواجية على المستويين النفسي والاخلاقي.

لأنَّنا نفترض أن من لا يقبل الاقتراب (اجتماعيا واخلاقيا) من هذه الموضوعات، ذات البعد الجنسي في الواقع، عليه ألا يتقبّل تلقيها أيضا أو الاقتراب منها على المستوى الأدبي الجمالي لأنها ستكون منكشفة مهما غطَّت عورتها البلاغة..

أو عليه أن يقرَّ ويعترف بأهمية هذه الموضوعات ودورها المحوري في تشكيل شخصية الإنسان والمجتمع وسلوكه.. لا أن يضع اصبعيه في أذنيه عند الحديث عنها مباشرة في حوار علمي، أو اجتماعي، أو شعبي، أو ديني رافضا الاقتراب منها ولو همسا، وبالعكس يفتح أذنيه متلذذا بالكلمات الموحية بالجنس بحجة أن ما يسمعه شعر وفن.. واذا كان الشاعر حسب النقد النفسي يستفرغ شحناته وحاجاته الجنسية التي يعدها المجتمع قبيحة في وعاء البلاغة الجمالي ويمرر حضورها بالاستعارات والتشبيهات مثلا.. ويتسامى بها لتكون مقبولة باسم الفن، فإن المتلقي أيضا يجد في ذلك الوعاء وإيحاءته وإشاراته تنفيسا عن مكبوتاته الجنسية والعاطفية، لذلك يتفاعل معها ويصفق لها متواطئا مع الشاعر في تمريرها تحت ذريعة الفن والمجاز. هنا نصل إلى تأويل ثقافي مفاده أن الشعر الذي يمرر حضور الجنس تحت غطاء البلاغة لا يسهم في التنفيس عن المكبوت لدى الطرفين (المتلقي والشاعر) وإنما يسهم بالعكس في ترسيخ الكبت لأن ذلك التنفيس سيبقى مجرد فعل جمالي خيالي مؤقت وحلمي وليس حقيقيا..

   ومن ثمَّ فإن الآهات الجماعية المصحوبة بالتصفيق الحماسي التي يطلقها هذا الجمهور ملتذاً بالإيحاءات الجنسية في نص شعري يُقرأ على مسامعه، ويطالب بإعادة قراءته ويثني عليه بـ (أحسنت)، إنما هي تعبير عن وجع الحرمان الجنسي والعاطفي الذي يعيشه حقيقة.. ويجد في بلاغة الشعر مخدرا مؤقتا له. لكنه في العلن يسوق ذلك الفعل الجسدي (التصفيق) والصوتي (الآهات) والمديح بـ (أحسنت) على أنه تقليد من تقاليد التلقي فحسب..

 لكن في حقيقة الأمر ومن منظور ثقافي نفسي فإن تلك الآهات هي استعادة صوتية تعويضية ذكورية استعراضية لأنماط عديدة من الفحولة المستلبة والمجروحة.. نفسيا، أو جنسيا، أو اجتماعيا، أو سياسيا.. أو ذلك كله..

ومن المفارقة أن الجمهور ذاك نفسه في المناسبة التي ذكرتها بداية المقال، لم يتفاعل بالمستوى نفسه مع النصوص ذات البعد الفكري والهم الإنساني. وإنما تفاعل مع النصوص ذات البعد الحسِّي الجنسي في دلالة على هيمنة النسق الغرائزي الحسي الجسدي على ثقافة التلقي بدل هيمنة النسق الفكري العقلي. وهذه ثقافة حسية شبه مفلسة، وغير منتجة، أو مبدعة، أو مبتكرة، أو محاورة فكرياً، كما أنها ثقافة غابة، وملهى، وليست ثقافة تصنع فكراً ومدنية وحضارة.

إنَّ نصوصاً من هذا النمط أشبه بثوب الرقص الشرقي الذي يعول في فتنة المتلقي على ما يومض من جسد تحته. وإن شعرا مازال يتسلق على النهود ويتزحلق على الخصور في الوصول إلى إعجاب المتلقين إنما هو شعر انتكاسة ثقافية كبيرة وامتداد جاهلي للنسق الحسّي القديم في التعامل مع المرأة بوصفها دمية جميلة فحسب، خلقت لإمتاع المجتمع الذكوري الذي تمثل بجمهور تلك المناسبة، وعمر ذلك الشعر رهين باستمرار علو تلك الغرائز على الفكر والروح. وأن دعوات التعايش السلمي مع المرأة بوصفها إنسانا يمكن أن يفكر ويبدع وينتج ويعمل ويبتكر كلها ذهبت أدراج الريح مادامت الثقافة برمز الشعر ماتزال تستدعي المرأة بوصفها دمية للمتعة فحسب، ويمكن تعريتها بلاغيا أمام جمهور يعاني جوعا جنسيا في السّر، وفي العلن يزعم أنه وصل التخمة من الفضيلة وما الشاعر بهذا الدور سوى سمسار يروّج لسباياه وجواريه المتخيلات بالشعر لينال أجوره من التصفيق وأحسنت، وربما ينال كيساً من المال، أو مبيتا في فندق فخم على هامش مناسبة ثقافية.