الدراما العراقيَّة بعيون النقاد؟

منصة 2023/05/17
...

  رضا المحمداوي       

      في الأسبوع الماضي تمَّ تخصيص واحدة من الجلسات الأسبوعية لملتقى الإذاعيين والتلفزيونيين في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين، عن النقد الدرامي لدينا، وذلك من خلال عنوان الجلسة الموسومة بـ ( الدراما العراقية بعيون النقاد).                                

ومن خلال حضوري الشخصي ومتابعتي لمجريات الجلسة وما شهدتْهُ من طروحات وآراء ووجهات نظر شفاهية عامة للعديد من الشخصيات التي حضرتْ الجلسة من فنانين وفنيين وأدباء وإعلاميين وغيرهم من الاختصاصات، لاحظتُ أنَّ الجلسة المخصصة للنقد الدارمي لمْ يحضرْها أيّ ناقد درامي معروف ومتخصص بهذا النوع من النقد الدرامي .

وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: هل يوجد لدينا نقاد للدراما العراقية؟ وأينَ نماذج وتطبيقات هذا النوع من النقد؟ وأينَ نصوصه الإجرائية ؟                                                                            فها قد إنقضى  الموسم الدرامي لشهر رمضان  بقضه وقضيضه  والذي تناول العديد من الموضوعات السياسية والاجتماعية  بكل ثقلها وأهميتها في الحياة العامة، فضلاً عمَّا يشكلهُ إنجاز العديد هذه الأعمال من أهمية في بورصة الأعمال الفنية ودخولها في سوق الإنتاج وحلبة المنافسة الإعلامية بين القنوات المنتجة وبكل ما تضمنتهُ العملية الإنتاجية من رؤوس أموال وتكاليف باهظة.

وإزاء كل هذه الجعجعة وذلك الضجيج، وإزاء كل هذا الحضور الفني الطاغي بخطابهِ الثقافي المكثف وتداعياته الإجتماعية يحقُ لنا أن نتساءل: أينَ النقد التلفزيوني؟ وأينَ نقاد الدراما التلفزيونية سواء للاعمال العربية المصرية والسورية والخليجية على وجه العموم بإنتاجاتها المتعددة، أو للأعمال العراقية على وجه الخصوص؟

* أليسَ في هذا الكم المتراكم من الأعمال الدرامية ما يستحق الوقوف عنده وتبيان خصائصه ومميزاته وإيجابيات خطابه الثقافي وسلبياته؟ 

*وهل تحقق البناء الدرامي النموذجي في واحد من هذه المسلسلات وأخفقتْ الأعمال الدرامية الأخرى في الوصول إلى ذلك المستوى من البناء الفني الناجح والمؤثر؟

*وما هي الرؤية الإخراجية لهذا المخرج أو ذاك؟ وما هي فلسفتهُ الإخراجية التي جسَّدها من خلال تلك الرؤية الإخراجية للنص الدرامي الذي كان  بين يديهِ قبل أنْ يتحوَّل إلى صور متحركة وحوار ناطق؟ 

مثل هذه الاسئلة وغيرها قد غُيبَتْ تماماً بعد أنْ غاب النقد الدرامي التلفزيوني عن صفحاتنا الفنية والثقافية ولمْ نعدْ نقرأ نصوصاً نقدية جادة ومتميزة عن هذه الأعمال وكأنَّ كل تلك الجهود الفنية والمستلزمات الإنتاجية الضخمة والطاقات البشرية العاملة قد اُلقيتْ في الهاوية وليس لها من دليل في ذاكرة المُتلقّي ونفسيتهِ وانفعالاتهِ؟ وكأنَّ تلك النصوص الضخمة والمجلدات الكبيرة من الأوراق والساعات الطويلة من الحوار والأحداث المتسارعة والمتتالية، لا قيمة فيها ولا تنطوي على أهمية تذكر، ولهذا يقابلها الناقد بمثل هذا التجاهل أو التغافل، بل يعمد إلى تناسيها ومحاولة محوها من ذاكرة الفن من خلال عدم توثيق أو تدوين النص النقدي إزاء النص الدرامي المتلفز المعلق في الهواء؟!

وفي ظل هذا الغياب النقدي التام عن صفحات التوثيق والتدوين، وفي ظل تراجع ثقافة الإحتكام إلى المعايير والأدوات النقدية في فرز الغث من السمين وفضح الأعمال التجارية الهابطة، في ظل هذا كله: هل أصبحتْ الدراما التلفزيونية مجرد كلام في الهواء؟ وإذا كان الكلام يُعبّر عنهُ بأنه مجرد هواء يمرُّ على الأوتار الصوتية ،فهل أصبحتْ الدراما التلفزيونية – وفقاً لهذا التصور – مجرد هواء في هواء؟ 

إنَّه واقع حال نقد الدراما لدينا وإن كان  من الصعب إقراره والتعامل معه، لكن حقيقة غياب النقد الدرامي التلفزيوني أصبحتْ حقيقة ً قائمة ً ولا يمكن تجاهلها، وتعكس في بعض أوجهها أزمة الثقافة النقدية العراقية، أو ُقلْ انها واحدة من تمظهرات تلك الأزمة. 

فبعد الانتهاء من عرض الأعمال الدرامية لمْ يظهر في صحافتنا الثقافية والفنية ما يُدلّل على وجود نصوص نقدية حقيقية ذات منهج نقدي واضح للأعمال الدرامية التي عُرضتْ خلال الموسم الدرامي الرمضاني المعروف سنوياً (هذا إذا أغفلنا غياب المتابعة النقدية للدراما على مدار العام بأكمله وليس في رمضان فحسب)، ولمْ نطالع كذلك نصوصا نقدية بعيدة عن الانفعال اليومي والانطباع العابر، ولمْ تظهرْ كذلك كتابات نقدية للأعمال الدرامية تنظر إلى التجارب الفنية المتباينة - ولا أقول كل تجربة على حدة- بما  تتضمنه من رؤى وأساليب برؤية نقدية تمكّنُ الناقد المتخصص والمتفحص من إبداء التقويم المطلوب وإجراء المقارنة والتوقف عند التجارب الناجحة والمتميزة من تلك الأعمال الدرامية وعرض الأحكام والنتائج لعملية النقد والمتابعة والتقييم .                                                           

لا بُدَّ من الإقرار، هنا، بأنَّ حرفة كتابة النقد الدرامي التلفزيوني ليستْ بالسهولة واليسر التي تحفّزُ وتشجّعُ الكثير من أصحاب القلم الذين أدركتهم حرفة الكتابة للولوج إلى هذا الحقل الثقافي الذي يحتاج إلى شروط وخصائص نوعية تشتمل على التخصص الفني الدقيق والإلمام بفنون السينما والتلفزيون المتعددة وكذلك تشترط تلك الكتابة النقدية حيازة الأدوات والأساليب النقدية بمعاييرها وعلميتها التي تراكمتْ على مدى سنوات طويلة وواكبتْ  تطور الفن الدرامي بجميع صنوفهِ وأنواعه.

ونظراً لصعوبة توافر هذين العنصرين المهمين لِمَنْ يحاول التصدي لكتابة النقد الدرامي التلفزيوني، فضلاً عمّا تقتضيه الآليات النقدية المتُبعة في المشاهدة اليومية والمتابعة المستمرة الطويلة الأمد التي تمتد على مدى ثلاثين حلقة متوزعة على ثلاثين يوماً وما تتطلبهُ هذه الآلية من تفرّغ تام. 

إنَّ متابعة مسلسل تلفزيوني بثلاثين حلقة أشبه ما تكون بقراءة رواية أدبية  طويلة بشكل يومي ومستمر حتى نهايتها، ومثلما يتعذر عليك الحكم وإبداء الرأي برواية لمْ تفرغْ من قراءتها ،فكذلك ينطبق الحال على المسلسل التلفزيوني حيث لا يمكنك الاحتكام إلى المشاهدة المُجتزأة، أو مشاهدة حلقات متفرقة بوصفها عينات لعمل درامي كامل  متكامل. 

ونتيجة  لما تقدَّم فقد انحسر النقد الدرامي التلفزيوني المتخصص، فبعدَ (40) أربعين عاما  قضيتُها في هذا الحقل النقدي الذي كنتُ قد بدأتُ النشر فيه منذ عام 1983 في مجلة (فنون) لمْ أشهدْ سوى ولادة اسمين بارزين في هذا المجال هما  كل من الشهيد الراحل: قاسم عبد الأمير عجام والقاص والروائي ناطق خلوصي (أمدَّ الله في عمره) والذي انقطع عن ممارسة النقد منذ سنوات بعيدة اضافة إلى الناقد المتواضع  كاتب هذه السطور .

وأقرب مرحلة زمنية يمكن أنْ تقاس بها  ندرة نقاد الدراما التلفزيونية هي السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق، فقد شهد العقدين المنصرمين ولادة صحفيين وإعلاميين وقصاصين وروائيين وشعراء ونقاد أدب ونقاد سينما، لكن تلكم السنوات الـ (20) الماضية، لمْ تشهدْ ولادة ناقد درامي تلفزيوني واحد متخصص جاد ومتواصل مع هذا الفن الصعب من الكتابة على الرغم من القفزة النوعيَّة والكمية التي صاحبتْ انتشار القنوات الفضائية العراقيَّة التي باتتْ تُعَدُّ بالعشرات وأصبحتْ ملمحاً إعلامياً مُهمّاً مِن ملامح العراق الجديد بعد 2003 .