وهم التَّقدُّم

ثقافة 2023/05/24
...

 كاظم لفتة جبر 

 عرف الإنسان منذ وجوده على وجه الأرض بأنه كائن مبتكر، يبحث عن السعادة والراحة والتقدم، فكل ما وصلت إليه الحضارة الإنسانيّة، ما هو إلا عمليّة تراكميّة، وحلقات متصلة بعضها ببعض، منذ البدء إلى الآن. مرت حلقات سلسلة التكوين الحضاري للبشر بالمد والجزر، إذ كانت تتعاقب على الفوضى والنظام، والحروب، وكل حقبة زمنية تميزت بروح عصرها سواء كانت حجرية، أو زراعية، أو صناعية، أو رقمية، وهذا التحول جاء نتيجة إصرار الأنظمة العقلية على التقدم، إذ جعلت العقل الآلة التي نستنتج من خلالها البُنية التي نسعى لتحقيقها وسط مجتمعاتنا وشعوبنا.

لذلك كانت وما زالت فكرة التقدم تمتلك التاريخ الإنساني، والأنظمة العالمية، وتنقسم الآراء حولها إلى قسمين: هناك من يرى خضوع فكرة التقدم للنظرية العلمية، والآثار التي تترتب على اختيار طريقة عيش الإنسان، في جميع نواحي حياته، وهذه المجتمعات هي التي جعلت من العلم والتجربة ميزان تفكيرها وتطورها، على عكس البعض الآخر من المجتمعات التي ترى في تاريخ الحروب، والاحتفال السنوي بالماضي أساساً لقوتها وبقائها. وهي التي تربط عقلها إلى جانب الفكر الديني والخرافة والأسطورة، وهذا الفكر يسعى إلى بناء الإنسان لحياة غير حياته الأرضية ويبعده عن واقعه والاهتمام به بقدر البحث عن المثاليات في أذهان تحيا بالذاكرة. 

لذلك تُقسم فكرة التقدم كرتنا الأرضية والبشرية إلى جانبين، الشرق الذي يبني مستقبله وفق تصورات رجعية تمتطي التقدم بهودجها الديني. والغرب الذي رفض وصايا الكنيسة على العلم ومستقبل حياتهم. 

ففكرة التقدم ارتبطت فلسفياً بالقرن الثامن عشر، بداية عصر الأنوار، من خلال الدعوة إلى الاعتماد على العقل بدل الفكر الخرافي والأسطوري. إذ التجأ إنسان العصر الحديث وعصر النهضة بالخصوص في أوروبا إلى التجربة، وتنمية الذوق الحسّي، والإعلاء من شأن الحواس والفرد، وأبرز مفكري هذا العصر هم «بيكون وديكارت وكانت، ومونتسيكو، وفولتير، وكوندرسية، واسحاق نيوتن، وجون لوك وروسو» وغيرهم الكثير.

يفتتح ديكارت هذا العصر بعبارة وردت في كتابة مقال في المنهج “العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي»، إذ كانت دعوته تنص على  استخدام المنهج العقلي في بناء الفرد والمجتمع. وحثَ من بعده «كانت» في مقالة له في التنوير الإنسان إلى أن يتجرَّأ في استخدام عقله ولو لمرة واحدة في حياته. 

لذلك تجد الفلاسفة والمفكرين في هذا العصر قدموا نظرياتهم في تشكيل الأنظمة السياسة والجمال، والفن والاجتماع، والنفس، والعدالة، والحقوق، والحريات، والمساواة، وبرزت فكرة العقد الاجتماعي عند الفرنسيين التي تقوم على التقاعد بين السلطة والشعب. 

لذلك أتت فكرة التقدم بثمارها في الغرب التجريبي، بعد أن جعلت من الإنسان المركزيّة التي يتأسس عليها الكون، بعكس الحضارة العربية التي تمسكت بالماضي والفكر الديني ومحاولة إحيائه بكل مناسبة. 

ثمة أنّه بعد التحولات التي طرأت على الدول العربية وخاصة بعد ثورات الربيع العربي، تحاول بعض الأنظمة السياسة في المنطقة إلى تبني فكرة التقدم والتركيز عليها في الخطابات السياسية الموجهة للشعوب من خلال استحضار فكرة التقدم بالإشارة إلى الجانب الخدمي والمادي، بذلك يعتمدون التنمية المادية، وإنتاج الفرد الاستهلاكي للفكر الديني أو الأيديولوجي، من دون إيجاد طريقة في بناء الإنسان، فالاقتصار على بناء المدن وتشييد طرقها لا يعد تقدماً بقدر ما هو شبيه بالاهتمام بالجسد، وترك الروح معتله، فبناء الإنسان والاهتمام بالتعليم هو الذي يبني الدول ويحافظ عليها. 

فما نرى من اهتمام الدول بالجانب الخدمي والاقتصاد الاستهلاكي، ما هو إلا تقدم وهمي ما دام لم يجعل بناء الإنسان أساساً في منهجه. 

كما أنَّ احتضان الدول لفكر الفلاسفة والعلماء والمفكرين هو الذي يشيد فكرة التقدم، وليس جعلهم تابعين إلى فكر الدولة وايديولوجيتها كما نرى اليوم. 

فتقدم الأمم وإصلاحها لا يمكن أن يقوم من خلال الخلط بين الفكر العلمي والايديولوجيات السياسية للجماعات، بل إن التقدم والإصلاح يقع على عاتق المفكرين والمبدعين، وجمهورهم المثقف من الأفراد القرّاء لهم.