حين تكون اللغة تهمةً

ثقافة 2023/05/25
...

  طالب عبد العزيز 

كنت قد لبّيت دعوة أصدقاء أدباء ومثقفين في مدينة الأهواز، والمشاركة في تأبين أحد أقرانهم، اسمه السيد هادي أبو شوكة. شخصيّاً، لا أعرف الرجل، وحين بحثت في مشغل الجوجل عنه لم اعثر على شيء مكتوب، لكنني، حين دخلت القاعة، حيث استقبلتني صورته ويقام حفل التأبين، وجدتها غاصةـ، بالمئات من النساء والرجال (النساء أكثر) الذين حسبتهم من أبناء عشيرته وأصدقائه، لكنني، حين تفرّست في الوجوه، وسمعت الكلمات عرفت بأن الحاضرين هم غالبية من الأدباء والفنانين والنخب المثقفة في المدينة، جاؤوا لتعزية لغتهم قبل تعزية ذوي المتوفى.

 يصبُّ نهرُ الكارون في شط العرب، بعد أن يشطرَ مدينةَ الأهواز نصفين، ليشكّل العصب الرئيس في حياتها، وقبل أنْ تنتصب الجسور الاسمنتية والمباني والكازينوهات كان أكبرُ قصور الشيخ خزعل الكعبي يشمخ عليه، هذه المدينة التي كانت خالصةً لأهلها العرب قبل مئة سنة، يتراجع استخدام اللغة العربية بين سكانها اليوم، الى حدِّ التهمة والتخوين، فالسلطات هناك تمنع تعليق يافطة، أيَّ يافطة بالعربية، على أيٍّ من مبانيها، والحرف العربيُّ غريب أو مختفٍ تماماً، والناس يلهجون بالفارسية من دون العربية في الأسواق، اللهم إلا من نفرٍ ظلَّ يصُرُّ على الحديث بها في بيته، أو بين جماعته الضيّقة، حيث ينتمي ويعيش، في إقصاء لغوي غريب، وإن بالغ في حديثه بالعربي فلن تخلو أحاديثه من المفردات الفارسية، التي لا يجدُ مرادفاً عربياً لها، فهو يتكلم بعربية فقيرة، آخذة طريقها الى ما لا يعلمه إلا الله.  اللغة العربية خطابٌ مؤجل في الذات العربية هنا، لذا، وبنكوص واضح، حلَّ الشعرُ الشعبيُّ بوصفه الاكثر سماعاً وقولا على ألسِنة وآذان الناس، أمَّا الأبوذية فهي أوسع أبوابه، لأنّها ملتجأ من أفتُقر وتداككت عليه حياته، وما أوفر الفقر هناك. سكان الاهواز العرب ينشدون الأبوذية بشكل لافت، حتى لتبدو خلاصاً وملاذاً لقلوبهم حيث كانوا، وحيث أرادوا التعبير عن حاجة ما في نفوسهم، وراوية الشعر والحافظ وصندوق الاغاني والمترجم وقارئ الروايات والمثقف الجامع السيد هادي أبو شوكة نمط فريد بينهم، فقد أفصحت الكلمات التي قيلت بالمناسبة، والجريدة العربية التي التهمت الفارسية نصفها الآخر، والمسماة (دورق) عن الكثير من أهميته، وحضوره في حياة وثقافة إقليم الأهواز. يتحدثون عن يوم تشييع جنازته فيقولون بأنَّ المدينة لم تشهد تشييعاً مهيباً لأحدٍ قبله. 

بحكم العرق واللغة ينتمي العرب الاهوازيون الى الثقافة العربية، والعراقية بخاصة، أكثر من انتمائهم الى الثقافة الفارسية، فهم يجدون في العراق عمقهم اللغوي، الثقافي والاجتماعي والانساني، وأيُّ زيارة سريعة الى هناك تكشف عن معاناة من نوع غريب، لا نستشعره نحن، عرب ضفة الشط الثانية، هناك غربة لغوية وثقافية يعانيها السكان، يقع ثقلها على المثقف والمشتغل بحقول المعرفة. اللغة العربية هنا مهددة بشكل لافت وخطير، وليس من شرف المسؤولية إغفالها، لذا، أعتقد بأنَّ واجب الثقافة والمثقفين العراقيين الالتفات الى بني قومهم هؤلاء، الذين يجدون في انتمائهم كــ (عراقيين) أكثر من أيِّ انتماء آخر، وهنا لا أدعو الى تحريض قوميٍّ، أو نبذ لثقافة الآخر الفارسيّ، أبداً، فالثقافة الفارسيَّة أكبر من أن ينال منها قلمٌ منصف، كما لا يمكن الفصل بين الثقافتين (العربية والفارسية) اللتين تعايشتا قروناً، وأنهلت هذه من تلك ما نهلت، بعد أن وحَّدَ الاسلامُ الأمتين. 

 إنَّ طمس لغة لأمةٍ ما هو طمس لحياة كاملة، العرب في الاهواز لا يدوّنون تفاصيل حياتهم بلغتهم العربيّة، الحياة تمضي وهم خارجها، ولا أحد يؤسس ليومه ولا لغده شيئاً مكتوباً، أما المستقبل فمجهول مطلق. أيَّ غربة هذه التي يعيشها الناس هناك؟ صمتُ المثقف العربي والعراقي بخاصة غير مبرر على الاطلاق، وما من دعوة لتأليب أحدٍ ضد أحد، نحن نتحدث عن لغة وثقافة أربعة ملايين انسانٍ عربيِّ، يُضرَبون بأعزِّ ممتلكاتهم. من لم يعش غربةً لغويةً في حياته لا يمكنه تصور ذلك. ما اسمعه من الاصدقاء المثقفين الاهوازيين يوجع ويدمي القلب. وبحسب معرفتي، ليس في الاهواز شاعر أو قاص أو روائي أو فنان أو موسيقي.. يؤشرُه ضمن خريطة لغتنا العربية، والسبب لغوي محض، أمّا أنْ يعبّر العربيُّ عن قهره ومعاناته بالابوذية (من الأذى) فهو العذاب بعينه. 

  أنا زائر قديم لإيران، متطببٌ مرةً وسائحٌ ربما ثانيةً، وأعرف قيمة وأثر الثقافة الفارسية، الشعر والأغنية والموسيقى والفنون الأخرى هي الأرقى في شرقينا المتوسط والاقصى، وتعجبني الحياة الايرانية بنكهتها الافرنجية، من خلال الحضور الطاغي للمرأة، وسلطانها الاجتماعي، ومن خلال تفاصيل مدنية لا حصر لها..  لكنني، أسجِّلُ على المؤسسات السياسية- الثقافية في ايران ما تفعله أزاء الثقافة العربية، وترك اربعة ملايين إنسان يعيشون خارج لغتهم وثقافتهم، وإجبارهم على تبني ثقافة ولغة أخرى، غير ثقافتهم ولغتهم. وقد قرأتُ اجتماع الناس في حفل تأبين (أبو شوكة) مثلما قرأ غيري حادثة اجتماعهم يوم تشييعه، لا بوصفها مناسبة لتشييع شخص توفي، أبداً، إنما هي مناسبة لتشييع قلوبهم، وللتعبير عن الوحشة اللغوية والغربة الثقافية التي يعانون منها.