رحيم رزاق الجبوري
بينما كانت عقارب الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلا، قام من مكانه تاركًا حاسوبه الشخصي مفتوحا ولم يغلقه، بعد أن حل عليه التعب والإرهاق جرّاء يوم شاق في العمل، وتصفح الإنترنت لساعات طويلة بعضها جميل ورائع والبعض الآخر مؤرق وممل، وذلك عبر الفيسبوك من خلال متابعته للشأن الثقافي والأدبي، وأكيد كان الحيّز الأكبر الشأن السياسي، الذي هو أكثر مرارة وألم. وأثناء ذلك سمع صوتا قريبا من باحة المنزل، التفتَ إلى مكان صدور الصوت، هرول مسرعا، صاحب ذلك انقطاع للتّيار الكهربائي وهذا هو موعد «الانقطاع القسري» له.
فتعثّر في منضدة الطّعام، على إثر ذلك وقعتْ مائدة الأكل وأقداح الشّاي مع حاوية السّجائر على الأرض، مُخلّفة فوضى عارمة ومشهداً كأنّه لوحة «سريالية». وصل أخيرًا إلى مكان مصدر الصّوت، نظر بترقّبٍ، شاهد قطّةً تأكلُ بشراهةٍ من فُتاتِ طعام المنزل، يبدو أنّها لم تقتت طيلة هذا اليوم، غير آبهةٍ به. في خضمّ هذه الأحداث الدّراماتيكية، رنَّ هاتفه المحمول، طالعه، وإذا برقمٍ مجهولٍ؟ فأجاب مُمسكًا قدمه الّتي تألّمتْ من جرّاء تعثّره:
ــ ألو، من المُتّصل؟
لا أحد يردّ؟ كرّر ما قاله ثانيةً؟ لا جواب. بعد لحظاتٍ قليلةٍ، وبينما كانتِ القطّة تواظب على تكملة عشائها، نطق صوتٌ جميلٌ، كأنّه كروان يُغرّد في اللّيل، وإذا به صوت امرأة، فأجابت:
ــ أنا عبير؟
ردَّ بسخريةٍ مقيتةٍ، بعد أن قام من مكانه وركل تلك القطّة بقدمهِ بقوّةٍ، ففزعتْ، وهربتْ؟ قائلًا:
ــ لن تنطلي عليّ حيَلكم؟ أيُّها العبثيّون. فأنتَ رجلٌ، وتقوم بتصنّع صوت امرأةٍ لكي تحتال على بعض الأُناس المُغفّلين؟ وبالتأكيد فأنا لستُ منهم؟ أذهب ونمْ في فراشك، قبل أن أُسمعكَ كلماتٍ لم تسمعها في حياتك وربّما لم أنطقها من قبل بحقِّ أحدٍ...
فلم تجبه، بعد إلقائه هذه النّصيحة المجّانية. استمر يُتمتم بكلماتٍ غريبةٍ بينه وبين نفسه ويؤنّب المُتّصل، وأعصابه ما زالتْ مشدودة. وبينما كان السّكون والعُتمة مُخيّمًا على أجواء المشهد الدّراميّ، رأى عينان تتلألآن، بدتْ تقترب وتدنو منه شيئًا فشيئًا، ثمّ ما لبثتْ أن استقرّتْ في أحد أركان الغُرفة؟ تجمّد في مكانه، من شدّة ما رأت عيناه؟ تابع حديثه مع صاحب «المُكالمة»، بعد أن دبَّ فيه الخوف والفزع، فردّت عليه هذه المرّة بصوتٍ عالٍ:
ــ أنا عبير، يا أحمد؟ ألم تعرفني هل نَسيتني، هل نسيت صوتي، الذي كان لا يُفارق مُخيّلتك حيث كُنت تغفو وتنام عليه، عبير رفيقة أيّام الدّراسة، المُخلصة لكَ ولحُبّك. جليسة المِنضدة ذات اللّون الأحمر الّتي تقع في آخر رُكنٍ من النّادي، حبيسة شخصٍ تركها ولم يسأل عنها بعد التّخرُّج، ومرافقة الدّموع والآهات الّتي لم تستطعْ إيقافها... هل عرفتني الآن أم لا؟
صمتَ للحظاتٍ وهو يمسك رأسه، ثمّ سمع صوتًا آخر لكنّ هذه المرّة كان المصدر من داخل البيت، رافقه ضوء تشتّت بين أرجاء المكان راسمًا أشكالًا مُخيفة، يقتربُ شيئًا فشيئًا عليه قادمًا من سُلّم المنزل، ترك الهّاتف بعد هذه المواقف المُتتالية والمُفاجئة. نظر بترقّبٍ إلى مكان مصدر الصّوت القادم نحوه، وإذا بها زوجته تحملُ مصباحًا توجّهه صوبه وصوب أروقة المكان، لتتفاجَأ وتستغرب من المنظر الموجود، وهي ترى كُلّ هذه الفوضى العارمة. قائلةً له:
ــ لما كُلّ هذا يا أحمد؟ ولماذا لم تنمْ لغاية هذه اللّحظة، ومع من كُنت تتكلّم في هذه اللّيلة الظّلماء؟
أجاب مُندهشًا بعد لحظاتٍ من التّأمّل والتفكير:
ــ لقد انطفأَ التّيَّار الكهربائي، وتعثّرتُ بـ...
قالتْ متعجّبةً:
ــ وماذا عن صياحك وكأنّك تؤنّب شخصًا ما؟
فقال وهو بالكاد يجمع حروفًا ليصنع منها جملًا مفيدة:
ــ لا، إنّها مُكالمة من شخصٍ مجهولٍ؟ أقصد شخصًا «عابثًا».
في غضون ذلك سمع صوتًا آخر، يبدو أن مُسلسل الأصوات لمْ ولنْ ينتهي، وهذه المرّة كان عبارة عن بُكاءٍ وصياحٍ، فإذا به صوت ابنتهما الصّغيرة، أفاقتْ من نومها، وأحسّت بعدم وجود أبويها... فأخذها بحضنهِ ليُعيدها إلى فراشها، صاحتْ عليه زوجته:
ــ أحمد، أحمد. لا تنسى بأن تأخذ دُمية ابنتِنا «عبير» لقد تركتها هنا أثناء تناولِنا العشاء.
وبينما يهمُّ بالصعود إلى غُرفة النّوم بصحبةِ ابنته، عاد التّيار الكهربائي من جديد. كاشفًا وراسمًا هذه المرّة لوحة «واقعية» في خضمِّ هذا المشهد المُثير... بعد أن كشف حجم الفوضى الّتي خلّفها وراءَه؟ وإذا بتلك القطّة صاحبة «العينين الغريبتين» الّتي دبّت الخوف في نفسه، وهي تُحملق بعينيها تلك، كأنّها تُريد أن تقول شيئًا له. التفتَ أمامه، تاركًا إيّاها تُكملُ عشاءَها من دون مضايقة، وترك زوجته تُلملم الفوضى الّتي حلّت بالمنزل، كما ترك كُلّ شيءٍ خلفه، عانق ابنته «عبير» عِناقًا حميميًا، هامسًا بأُذنها ومردّدًا كلمة مرّات ومرّات:
سامحيني، سامحيني، ومضى!