السباحة الأولمبيَّة في نهر السين

علوم وتكنلوجيا / بانوراما 2023/07/05
...

 كاثرين بورتر

 ترجمة: مي اسماعيل

سار القبطان "أرنو مونتان" الذي يقود القارب الكهربائي وسط أمواج نهر السين الخفيفة، مارا بالقصور والمتاحف التاريخية وتحت الجسور المرابطة لضفتي العاصمة باريس، حتى رسا على الضفة المقابلة لبرج إيفل. هذا هو المسار المخطط له لافتتاح دورة الألعاب الأولمبية عند حلول الصيف من العام المقبل، وهذا الجزء الأخير سيكون هو المسار المحدد للسباحين الأولمبيين.  كان استخدام النهر لإقامة الفعاليات الرياضية جزءا اساسيا من مقترح مدينة باريس للفوز باستضافة الألعاب الأولمبية خلال العام 2024، وهو ما يُعلّق عليه مونتان قائلا: "يا لها من نافذة جميلة للنظر إلى باريس، لكن لو حدثت عاصفة فسيُلغى كل شيء بالتأكيد".

دأب العمال منذ عدة سنوات، وعلى امتداد مساحة باريس الكبرى، على تنفيذ ما يُعرف بـمخطط السباحة، وهو حلم هندسي يتطلب مد الآلاف من الانابيب والخزانات والمضخات الجديدة تحت الأرض، ويجب أن تكون مصممة لمنع البكتيريا الضارة من التدفق نحو نهر السين خاصة أثناء حدوث العواصف.

واذا نجح هذا المخطط فسيكون النهر نظيفا بدرجة كافية للأولمبيين (ولاحقا للمواطنين الفرنسيين) للسباحة فيه. 

يقول "بيار ربادان" نائب عمدة باريس: "هل لدينا ضمان بنسبة مئة بالمئة ((لنجاح المشروع))؟

الجواب هو- كلا". 

يترأس ربادان لجان الخطط الأولمبية للمدينة، ومنها تنظيف نهر السين وصولا إلى موعد استضافة سباقين للمسافات الطويلة وسباق الترياتلون الثلاثي (triathlon = سباق ثلاثي، يبدأ بالسباحة ثم ركوب الدراجات ثم الجري- المترجمة).

ويمضي ربادان قائلا: "إذا تساقط المطر باستمرار لمدة اسبوع قبل السباق، سندرك عندها أن نوعية المياه (حتى مع الخطة التي ننفذها) لن تكون ممتازة غالبا". 

واعترف نائب العمدة بعدم وجود خطة بديلة، قائلا: "اذا كان بالأمكان تأجيل السباقات لبضعة أيام، فسيمكن أن يعاد اختبار نوعية المياه والمحاولة ثانية".  


من معالم باريس

رغم انه النهر الذي يعده العديد هو الأكثر رومانسية في العالم، لكن السين أيضا تتصف مياهه بأنها عكِرة وله رائحة كريهة، وبعد ليالي العطل الاسبوعية تمتلئ المياه بمخلفات رواد الحفلات. 

كما تُلقي نحو أربعين فوهة تصريف على مسار النهر مياها مختلطة بالصرف الصحي أثناء العواصف المطرية الكبيرة. 

ولهذا ينظر العديد من الباريسيين، ومن بينهم بعض العاملين على "مخطط السباحة"، بفزع لفكرة السباحة في النهر. 

لكن الأمور لم تكن دوما هكذا.. إذ أُقيمت سبعة سباقات للسباحة في نهر السين خلال دورة الألعاب الأولمبية الأولى التي استضافتها باريس في العام 1900. 

وحتى بعد منع السباحة فيه عام 1923 (قبل عام من عودة الألعاب الأولمبية إلى المدينة)، استمر السكان المحليون بالقفز من جسر "بونت دولينا- Pont d’Iéna" خلال أيام الصيف الحارة.

 لكن النهر ازداد تلوثا بمياه الصرف الصحي والمخلفات الصناعية، وصنفت دراسة خلال عقد التسعينيات مسار النهر المار عبر باريس بإحتوائه على واحد من أعلى معدلات المعادن الثقيلة في العالم، وفقا لتوثيق تاريخ النهر. 

كان "جاك شيراك" قد شغل منصب عمدة باريس لفترة طويلة قبل أن يصبح رئيس الجمهورية اللاحق وخلال فترة وجوده عمدة للعاصمة قد وعودا بعودة أيام السباحة تلك، إذ تعهد سنة 1990 أنه خلال ثلاث سنوات سوف "أسبح في نهر السين أمام الشهود، لأُثبت انه نهر نظيف". 

لكن ذلك لم يحدث. ويُعلق "جان ماري موشيل" عالم الهيدرولوجيا والأستاذ بجامعة السوربون الذي درس نهر السين لمدة ثلاثة عقود قائلا: "كانت تلك مجرد كلمات لطيفة من شيراك، ورغم ادخال العديد من التحسينات على نوعية مياه النهر، ومنها تحديث محطات معالجة مياه الصرف الصحي، لكن لم توضع خطط للسباحة ثانية قبل حلول العام 2020". 

وقد غيّرت الالعاب الأولمبية ذلك المسار، ليس من خلال دفع المخطط قدما فحسب، وإنما بتوفير ميزانية قدرها نحو أكثر من مليار ونصف مليار دولار لتنفيذها. 

إحدى فوائد الألعاب (كما وعدت عمدة المدينة الحالية "آن هيدالغو") أنه سيكون تحقيق خطة وصول السكان المحليين إلى نحو عشرين منطقة سباحة على طول نهر السين ورافده "مارن" بحلول صيف العام 2025. يشرح ربادان أن المخطط جمع للعمل أكثر من عشرين هيأة حكومية ووكالات الماء والصرف الصحي، إضافة لسلطات مجرى النهر والموانئ، قائلا: "كانت الألعاب الأولمبية مجرد عامل تعجيل لتحويل وتحسين جودة المياه، وبدونها ربما لم تكن كل تلك الهيئات ستجتمع للعمل معا".  


أنابيب واقناع!

كان هدف الجهات المشاركة في المخطط جعل الماء نظيفا بما يكفي للوصول إلى مستويات مقبولة لنوعين من البكتيريا (الاشريكية القولونية والمكورات المعوية) بحيث تكون أقل من المعايير التي حددتها إدارة التوجيه الأوروبية للاستحمام. 

وتسمح القواعد الأولمبية بارتفاع قليل في  المعايير، مقابل شرط موافقة لجنة صحية عليها. ودأب مختصون فرنسيون على فحص مياه نهر السين بانتظام منذ العام 2020، وحققت نصف النماذج التي خضعت للفحص ذلك الهدف. لكنها أُخذت على امتداد مسار النهر وروافده خلال أشهر الصيف الثلاثة. 

وعندما جرى تحليل المياه في المسار المخطط للمسابقة الأولمبية البالغة عشرة كيلومترات، أواخر الصيف الماضي كانت النتائج "جيدة" بنحو تسعين بالمئة، مما يعني إن على اللجنة الأولمبية أن تقرر الاستمرار في المخطط أم لا. 

يرى ربادان وأعضاء آخرون من مجلس المدينة أنها نتائج واعدة، نظرا لأن الجزء الأكبر من خطة فعاليات السباحة لم يُنفذ بعد. 

يقول"صامويل كولين كانيفيز" كبير مهندسي المدينة والمسؤول عن مشاريع الصرف الصحي: "نحن لا نعمل لتنقية نهر السين، بل نهدف لمنع إلقاء المياه غير المُعالجة فيه". 

من المشاريع الجديدة وجود نفق طوله نحو سبعمئة متر، يرتبط بخزان ضخم تحت الأرض، يقع بين محطة أوسترليتز للقطارات ومستشفى قديم يمتد عمره إلى 350 سنة. يتسع الاثنان معا لأكثر من 13  مليون غالون من الماء، تكفي لملء عشرين مسبحا أولمبيا. 

ويعد هذا المشروع واحدا من خمسة مشاريع هندسية كبيرة يجري بناؤها للتعامل مع العواصف التي باتت تُنهِك نظام الصرف الصحي العتيق في باريس وتهدد مياهها. والأهم من ذلك هو ايقاف اجتياح مياه الامطار والصرف الصحي معا، فحينما تنغمر هذه الأنفاق بمياه الأمطار فإنها تطلق كل شيء (مياه المطر والمطابخ والصرف الصحي) إلى نهر السين. ويمضي كانيفيز موضحا: "هذا يحدث نحو 12 مرة سنويا، حينما يكون المطر شديدا في الجزء الشرقي من المدينة. 

وهدفنا تقليل تلك الحوادث إلى مرتين فقط". عند اكتماله يمكن للخزان الكبير احتجاز المياه أثناء العواصف ثم تصريفها ببطء إلى نظام الصرف الصحي بعد توقف هطول المطر. 

تلك هي تقنية الأجواء الماطرة لمنع مياه الصرف الصحي من الوصول إلى نهر السين، فماذا عن تقنية الأجواء الجافة؟

انها تتطلب مجموعة أخرى من المشاريع، بعضها مباشر (مثل إضافة معالجات خاصة لمحطتي تصفية أعلى مجرى النهر). 

والبعض الآخر أصغر حجما وأكثر خصوصية، مثل ذهاب فرق العمل من باب منزل إلى آخر عبر ست ضواحي لمدينة باريس، لمحاولة اقناع نحو عشرين ألف مالك منزل بالسماح بحفر أنابيب التصريف وإعادة ربطها بشكل صحيح مع شبكة التصريف.

 وتلك هي المنازل التي يُعتقد انها ترسل مياه الاستهلاك المنزلي إلى نهر السين أو رافده الصغير نهر مارن. 

ومع ذلك الخطر، لم يوافق سوى نحو خمسة آلاف مالك منزل على الخطة، على الرغم من تقديم منحة تصل إلى ستة آلاف يورو تكفي لتغطية كلفة التجديد بعد إعادة الربط، وفقا لتقرير من بلدية المدينة. 

وكان دافع الموافقة لكثير من المالكين هو الرغبة في العودة للسباحة وسط النهر وتحقيق الانجاز الأولمبي. 


مشكلات على سطح الماء

تختلف المشكلة ضمن حدود مدينة باريس الداخلية، ويكون سببها القوارب وليس المنازل. فهناك نحو 170 قاربا راسٍ على امتداد الضفاف من أعلى المسار الأولمبي، وكلها تقريبا كانت حتى وقت قريب تلقي بمخلفاتها إلى النهر. وقد أعلنت المدينة في العام 2018 أن على جميع القوارب ربط أنابيبها بشبكة تصريف المدينة، وبدأت سلطات الموانئ المهمة المُكلفة لإنشاء وحدات ربط للانابيب والمضخات المثبتة على الضفاف التي لا تتوفر فيها أساسا. وأُعطيت مهلة عامين لسكان القوارب لإجراء التعديلات اللازمة والربط مع تلك الوحدات لغرض وقف تفريغ محتوياتها إلى النهر. 

حتى هذا اليوم تم انجاز نحو نصف عدد القوارب المهمة، وفقا لسلطات المدينة. وقد اشتكى العديد من مالكي القوارب لعدم اعطائهم الخيار (على العكس من سكان المنازل) لتنفيذ الربط من عدمه. كما أن كلفة التعديلات المطلوبة على القوارب القديمة قد تصل إلى 25 ألف يورو، أي خمسة أضعاف التعويض الذي تقدمه الحكومة. 

يُقِر "نيكولاس لوندنيسكي" مدير انظمة المياه والمجاري في مدينة باريس أن التلوث الذي تخلفه القوارب قليل نسبيا، لكنه قد يُشكّل فارقا بين النسب المقبولة أو غير المقبولة من التلوث، قائلا: "إذا أردنا تحسين نوعية المياه فعليا، علينا القيام بكل شيء..". 


صحيفة {نيويورك تايمز} الأميركية