لا.. ليسوا وحوشاً

العراق 2023/11/09
...

أحمد عبد الحسين

وأنا أتصفح منتدى تشكيلياً أميركياً لفتت انتباهي لوحة لرسام شابّ يقلّد فيها الإسباني فرانشيسكو غويا في لوحته الخالدة «ساتورن يلتهم ابنه». لكنّ الرسام المبتدئ الموهوب رسم ساتورن بأنياب طويلة وعيون جاحظة، جعله وحشاً وهو يأكل الطفل. وأعجبني تعليق لافت لإحدى القارئات، كتبت: «بصراحة لوحة غويا تخيفني أكثر لأن غويا رسم ساتورن بشراً سوياً بهيأة إنسان تام الخلقة». فتنبهتُ إلى أنّ من طبيعة الوحش أكل الأطفال ولذا فهو لا يخيف. ما يرعب حقاً رؤية إنسان متحضّر يأكل أطفالاً.
المنظر القياميّ في غزة هو هذا بالضبط، هو مشهد متحرك للوحة غويا التي رسمها على جدار غرفته. هناك رجال متحضرون ببدلات وربطات عنق يأكلون أطفالاً فلسطينيين بشهيّة كبيرة، سنسمّي منهم رئيس الولايات المتحدة والرئيس الفرنسي ورئيس وزراء بريطانيا وطبعاً صاحب الدعوة للعشاء: نتنياهو الذي يعني اسمه بالعبرية «هبة الله».
هؤلاء ليسوا وحوشاً، سنجعل منهم ودودين جداً وغير مخيفين إنْ أسميناهم وحوشاً. هم بشر أسوياء يأكلون أطفالاً ، ولهذا هم مرعبون. لكنهم تافهون.
حين كتبت الفيلسوفة «حنه أرندت» تقريراً عن محاكمة «أدولف إيخمان» المسؤول عن قتل الآلاف في معسكرات الاعتقال الألمانية، ذكرتْ في تقريرها هذه الجملة المفزعة لكن الدقيقة: «أيخمان مجرد شخص بيروقراطي عاديّ، ليس بالشخص المنحرف أو الساديّ، يقوم بأفعاله دون أيّ دافع سوى التقدم في وظيفته المهنية في البيروقراطية النازية، لم يكن بالوحش الفاسد أخلاقيّاً».
لو كانت سمّته وحشاً لأسقطتْ عنه المسؤولية ولخففت عنه الحُكم ولجعلتْ فعله مطابقاً لطبيعته، لأنّ قتل الناس وظيفة الوحوش دائماً. لكنّه بيروقراطيّ تافه في نظام عقائديّ يحتقر حياة الإنسان ويرى في قومه شعباً مختاراً يحمل رسالة إلهية تتمثل بتصفية سائر الشعوب الأخرى وجعل الأرض للمصطفين!
هذه الجوقة من الرجال والنساء مثل بايدن وماكرون وسوناك وميلوني وشولتس ومحبوبهم نتنياهو ليسوا وحوشاً قبيحة، إنهم موظفون نجباء في مؤسسة بيروقراطية تافهة. يؤدون عملهم بآلية عالية ومتقنة من دون شعور بالذنب لأنّهم يرون أن هذه هي وظيفتهم الملقاة على عاتقهم.
سأستعير جملة من أرندت لوصف هؤلاء السادة القتلة: «لم يدركوا أبداً أفعالهم بسبب عدم قدرتهم على التفكير من منظور شخص آخر». وأفسّر ذلك بأنّ ما ينقصهم فعلاً هو عينُ ما ينقص أيّ موظف تافه: الخيال. كانوا مجرد مؤدين في هذه العقيدة الصهيونية التي باتت حاكمة في العالم اليوم، والتي من أولى سماتها وأوضحها إفراغ الأرض من الأغيار، أو على الأقلّ الحدّ من أهميتهم وجعلهم على هامش الحياة وترك الأرض بمقدراتها وخيراتها لشعب واحد أحد مختار من قبل «ياهو» الموجود في اسم نتن.