مراجعة الأخطاء وبناء الدولة من جديد

آراء 2023/12/06
...


 محمد حسين الرفاعي


[I]

من خلال فهم الإخفاق السياسي بعد عامّ 2003 في العراق، يمكننا أن نضع تساؤلات بناء الدولة، مرةً أخرى، على أرضيَّة فهم جديدة. ومن جهةٍ أخرى، يمكننا أن نرسم أفق الدولة من جديد، عَبرَ وسائل وأدوات بناء جديدة.

سوسيولوجيَّاً، ترتبط نظرية الإخفاق السياسي بثلاثة فرضيات سابقة إليها، على أقل تقدير، هي:

1 - إن الإخفاق السياسي ليس أن يرتبط بنظرية اللا- دولة، بل هو متعلق بمحاولة لبناء الدولة، أو الحفاظ على مؤسسات الدولة، لكنها أخفقت في مسعاها.

2 - إنه يرتبط باِغتراب حاد لرجال السلطة عن الشعب، والمجتمع، وحاجات المجتمع الأساسيَّة.

3- وإنه أخيرًا يتضمَّنُ معنى تسليم السلطة لرجال ليسوا متخصصين في الإدارة، والتنظيم، بقدر ما هم يمتهنون ممارسة التسلُّط والفساد، وإفساد المجتمع.


[II]

وفي المضمون، على نحو المؤسسة، ليست الدولة ولا نظرية الدولة بديلَيْن عن نظرية الفوضى؛ بل إنهما شيء آخر. شيءٌ آخر لأنَّ نظرية الفوضى تتضمَّنُ عناصر ومُكَوِّنات تؤدي وظائف مجتمعيَّة لا تمثّل نقيضَ نظرية الدولة. سياسيَّاً، للدولة شرطان أساسيان لا تقوم من دونهما. الشرعية المجتمعيَّة (ومن بَعدُ تُصبِح مشروعيَّة قانونية)، واِحتكار العنف الفيزيقي(الجسدي) ووسائله، واِحتكار التهديد بممارسته (يمكن فهم ذلك بعد دولة العصر الحديث بوصفه الشرط الوحيد لقيام الدولة). وإنَّ الدولة وفقًا لذلك لا يمكن تصورها في أدنى مستويات وجودها قَبلَ هذين الشرطين.  

[III]

ولكن، ما هي الأسس المجتمعيَّة، والمصادر المعرفيَّة التي تجعل من الشروط هذه متوفرة قبليَّاً؟ ولماذا تفشل الكثير من المجتمعات الجماعاتية- تلك المجتمعات المأخوذة ببناء عداوات مع الآخر، والتي لا تستطيع أن تعلن عن هويتها إلاَّ بواسطة هذه العداوات- مع توفر هذين الشرطين، لماذا تفشل في بناء الدولة، دولتها الخاصَّة؟ داخلياً، اِنطلاقاً من داخل المجتمعات، لا تقوم الدولة قَبلَ التوفُّر على المجتمع في المعاني الحديثة التي من شأنه، أي ضمن العقد المجتمعيّ والاِتفاق على الاِختلاف والتعدُّد والتنوع، وكيفِ ذلك. أي في كيفِ يتمُّ الاِتفاق على ممارسة الاِختلاف؟ إنَّ الاِختلاف وممارسته إنَّما هو صيرورة فن الاِختلاف وممارسته. إنَّ الظفر بالأرضية المجتمعيَّة التي من شأن الدولة، والحال هذي، إنَّما هو الاِنفتاح على أن نكون في اِختلاف آيديولوجي، وتعدد هوياتي، وتنوع مجتمعي. 


[IV]

خارجيَّاً، اِنطلاقاً من خارج المجتمعات، لا يمكن تَصوُّر المجتمعات والبلدان من دون علاقتها مع المجتمع الإقليمي والعالمي. وإنَّ نمط بناء العلاقة مع الإقليم والعالَم إنَّما هو يرتبط بأسس وقواعد فكر، وفعل، ورؤية 

مستقبلية.

 إنَّ العلاقة مع العالَم تتضمَّنُ معنى بناء الروابط التي تقوم على المصلحة العامَّة العليا؛ وطنيَّاً ومواطنيَّاً. وفي هذا السَّبيل، يُصبح التَّساؤل الأول مرتبطًا بالاِقتصاد العالمي ومؤسساته. ولكن لماذا الاِقتصاد العالَمي قَبلَ أي شيء آخر؟ 


[V]

حياتنا ومجتمعنا ودولتنا، في العراق، مرتبطة بقوانين الاِقتصاد العالمي، وطبيعة بناء علاقة مع المجتمع الدولي، وقواعد الاِنفتاح والحوار مع العالَمية. وليس في حوزتنا، كما تبيَّنَ في نصف القرن الأخير، بعد الصحوة الإسلامية، أي بديل آخر غير الكره المحرك إزاء الآخر الذي أوصل الكثير من حكومات الجماعات المنغلقة على ذاتها إلى الاِنهيار الاِقتصادي الشامل؛ وتبيَّن في ما بعد أنها لم يكن لديها أكثر من شعارات آيديولوجية فارغة أسهمت أكثر وأكثر في تفكُّك المجتمعات، وتدمير البِنى التحية فيها. ما هو واضح، أن نخب المجتمع بعامَّةٍ، الشيعة والسنة والكرد، لم يكن لديها أهم من مصالحها الضيقة؛ ولم تكن تملك أيَّة نظرية لبناء الدولة؛ والأوضح من ذلك أنهم كان ولازال بإمكانهم أن يفعلوا كل ما لا يمكن تصوره حتَّى، من خلال العودة لأحزابهم التي فُرضت على المجتمع من خارجه.


[VI]

ولكن، ما الذي، في الحقيقة المُرَّة، يجعل من المجتمعات تضيع عَبرَ مجموعة أحزاب مفروضة عليها من الخارج؟ وكيف يمكن أن تكون هذه الأخيرة في خدمة بناء الإنسان والمجتمع، وبالتالي الدولة في العراق؟ في الحقيقة، يصطدم هذا التَّساؤل بتناقض بنيوي صريح. فمن جهة ضرورة بناء المجتمع من خارجه، عند من يتبنَّى هذه الوجهة، ومن جهةٍ أخرى اِستحالة بناء المجتمع من خارجه. 


[VII]

إنَّ الدولة فكرةٌ، أو لا تكون. وفي ظل غياب نظرية الدولة الحديثة، في العراق ما بعد عامّ 2003، لم يكن أمام الفاعل السياسي غير أن يأتي بنظريات جاهزة من خارج المجتمع، وخارج هويته، وخارج آيديولوجيته. وهكذا، عِوضًا عن الأخذ بالنظرية الحديثة في بناء الدولة، أي بناء الثقافة والاِقتصاد والسياسة (المشروعيَّة، والشرعية)، وجد الفاعل السياسي نفسه في موقع الصراع على صحة وصوابية نظرية في مواجهة نظرية أخرى ليستا من صنعه. فتارة نعثر على، ونتعثر بشعارات ودعوات من أجل دولة إسلامية، أو دولة علمانية، أو دولة قومية، أو دولة مدنية،...إلخ، وتارةً أخرى نصطدم بأولئك الذين بالأساس لا يجدون أيَّة ضرورة من أجل الأخذ بالنظرية. وفي كلتا الحالتين، نكون أمام غياب تام للدولة المجتمعيَّة، الدولة التي تقوم، وينبغي أن تقوم على المجتمع، وهويته.