المكارثيَّة الجديدة

آراء 2023/12/12
...







 سالم مشكور


ما يجري في الساحات السياسيَّة الغربيَّة يجسد إحياءً فاقعاً للمكارثيَّة، ليستْ دفاعاً عن أميركا هذه المرّة، إنّما دفاع عن إسرائيل، وليس في الساحة الأميركية وحدها إنّما في كثير من الدول الأوروبيَّة أيضاً.

شهدت إحدى لجان الكونغرس الأميركي الثلاثاء الماضي جلسة استماع لرؤساء رئيسات جامعات أميركية شهدت منذ حرب غزة مظاهرات واعتصامات منددة بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين بحجة محاربة حماس.

المضمون كان محاكمة وليس استماع، وعضو اللجنة النائبة الجمهوريّة ليز ستيفانيك كانت تطرح أسئلة بحكمٍ مسبق بأنَّ “ما قام به الطلاب هو خطاب كراهيَّة وتهديد للطلاب اليهود”، كانت تقرّع رئيسات الجامعات وتتهمهن بالسكوت عن هذا “التهديد”، وبعد يومين من تلك الجلسة بدأت الضغوط على تلك الجامعات من المموّلين فاستقالت إحداهن وهي رئيسة جامعة بنسلفانيا اليزابيث ماغيل، وهي المحامية المشهورة بتبني قضايا حرية الرأي.

في المكارثيَّة الجديدة لا وجود لحرية رأي في ما يتعلق بإسرائيل، بل أن أي حديث عن ممارساتها أو سياساتها يعد معاداة للسامية من دون نقاش ومن دون سماع أي تبرير. نتنياهو قال بالأمس إنّه اذا قامت المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بفتح ملف جرائم إسرائيل في غزة فسيكون ذلك قمة المعاداة للسامية وسيوجب ذلك جهداً لتصحيح مسار العدالة.

المكارثيَّة سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة من دون الاهتمام بالأدلة. ينسب هذا السلوك إلى عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي الذي كان رئيساً لإحدى اللجان الفرعية بالمجلس واتهم عدداً من موظفي الحكومة وبخاصة وزارة الخارجيَّة، وقاد إلى حبس بعضهم بتهمة الشيوعيَّة والعمل لمصلحة الاتحاد السوفيتي ليتبيّن فيما بعد أن معظم اتهاماته كانت بلا أساس وأصدر المجلس في عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم عليه. بات هذا المصطلح يستخدم للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين. 

المكارثيَّة تتجسّد اليوم بتوجيه الاتهام بمعاداة السامية لكل من يرفض جرائم إسرائيل أو يتحدث عن القتلى المدنيين من الفلسطينيين الذين يسقطون بقصف وحشي إسرائيلي أو لا يعترف بأن ما تقوم به إسرائيل هو دفاع عن النفس. لا تنفع كل الأدلة الدامغة التي أسهمت منصّات التواصل الاجتماعي في نشرها حتى وصلت إلى كل المجتمعات، والتي توثّق بالصوت والصورة بشاعة ما تقوم به إسرائيل ضد المدنيين العزّل. هذه المنصّات كسرت الطوق الذي يفرضه الإعلام التقليدي على الحقائق، بل والتزييف الذي يمارسه لقلب هذه الحقائق وجعل إسرائيل هي الضحية عبر نشر فيديوات مفبركة بشكل فاضح. 

بات الوعي لدى أغلب الجمهور والاكاديميين في الغرب بما يجري كبيراً وأدى إلى خروج مئات الآلاف من المواطنين في عدة دول في تظاهرات حاشدة لدعم الفلسطينيين.

لكن الموقف على المستوى الرسمي لا تحركه حقائق الواقع بل المصالح السياسية والمالية. فالصهيونية تهيمن على مقاليد الاقتصاد والسياسة في الولايات المتحدة وأوروبا. الشركات العملاقة يملكها يهود داعمون لإسرائيل، ومموّلون للأحزاب السياسية، وفي كل انتخابات يحتاج المرشّحون إلى هذا المال والدعم السياسي من اللوبيات الصهيونيّة، بل إنّ السياسي المسؤول (نائبا كان أم رئيسا أم مرشحا لاحدهما) يتعرّض لحصار شديد ومقاطعة تمنعه من الاستمرار في عمله. موظفون كبار في الحكومات أو المؤسسات الإعلاميّة الكبيرة يتعرّضون لذلك إلى حد اضطرارهم إلى الاستقالة أو تعرّضهم للطرد.

في الولايات المتحدة هناك اتفاق على دعم إسرائيل بين كلا الحزبين مع تفاوت في مستوى الموقف بين حزب وآخر، بل بين أعضاء الحزب الواحد. الان الانتخابات الأميركية تقترب وكل حزب يحاول ابداء الدعم والولاء لإسرائيل لتعزيز فرصه في الفوز.

ما يجري من مكارثيّة جديدة في ظل الإدارة الديمقراطية الحالية يعزز الاعتقاد بأنّ الوضع سيكون أكثر سوءاً في حال وصول الجمهوريين إلى الرئاسة في نوفمبر المقبل، وهو الأرجح حتى الآن في ظل ضعف وهزال مرشحي الحزب الديمقراطي.