إسرائيل ومشروع الشرق الأوسط الجديد

آراء 2023/12/26
...








 د. عدي حسن مزعل


لا شكَّ أن العلاقات بين إسرائيل والغرب، خاصة مع الدول الفاعلة في الشأن العالمي، تتعدى مصطلح المصالح المشتركة، فالدعم غير المحدود، الذي يقدمه الغرب لإسرائيل يُشعر المتابع، بأن هذا الكيان وكأنه جزءٌ من الغرب ويستمد وجوده منه.

وأكثر من ذلك، فهذا الكيان يقيم معه الأقوياء في العالم نمطا من العلاقة الأبوية التي تظهر في أشكال عدة من التعاطف والرعاية والدعم، من أجل استمرار حياة هذا الابن، وتذليل كل المعوقات التي تعترض طريقه أو تقف حاجزاً إزاء تحقيق تطلعاته ومشاريعه. 

ومع ذلك فإن تبادل المصالح يبقى العنوان الأبرز لتلك العلاقة، وهو ما يخدم الطرفين ويحقق أغراضهما في شكل من التحالف، لا تخفى فيه آثار الماضي، ماضي الكراهية والعداء للعالم الإسلامي.

وذلك هو العامل الأيديولوجي، حيث الروابط بين الغرب وإسرائيل لا تختصرها المصالح المادية وحسب، فهناك روابط دينية وثقافية.

ذلك أن زعماء إسرائيل ومؤسسيها معظمهم غربيو النشأة والتكوين الثقافي، وهذه الثقافة تحمل بدورها رصيداً ضخماً من الكره والعداء للمسلمين.

 وقد تجلّى ذلك في مجالات فكرية عديدة، وفي سياسات عدوانية ترجمت على الأرض استعماراً للبلدان الإسلامية، وهو ما تحقق زمن صعود القوى الإمبريالية في القرن التاسع عشر، وما بعده.

وقبل ذلك شكّل المسلمون في الذاكرة الأوروبية خطراً هدد كيانهم، خاصة أن العالمين الإسلامي والمسيحي قد خاضا في عصور ماضية حروب دامية، وذلك زمن صعود الإسلام وانتشاره، وفي الفترة التي عرفت بالحروب الصليبية. 

 لقد نتج عن هذا الصراع الطويل تراث فكري ضخم من العداء والتشويه، أضيف إليه في ما بعد كم هائل من الدراسات المتنوعة حول المسلمين، لا سيما في الفترة التي عرفت بعصر التنوير الأوروبي حيث الشرق، وخاصة الإسلامي منه، يظهر في جملة من هذه الدراسات متأخراً ومتخلفاً، وأن شعوبه بحاجة إلى من ينتشلها من تأخرها وبؤسها، وذلك ما كشف عنه إدوارد سعيد في دراسته الرائدة حول الاستشراق. 

 والمهم أن هذا التراث الضخم من العداء لم يختف من أذهان الغربيين، فقد ورثه مفكرون، وصحفيون، ورجال دين، وعمل به ساسة، ومثلهم صهاينة وجدوا فيه مسوغاً لتمرير مشاريعهم في الاحتلال، تلك التي تنسجم مع مصالح الغربيين الداعمة لترحيل ما عرف بــــ (المسألة اليهودية) من بيئتها الأوروبية إلى الشرق الأوسط، تحقيقاً لوعود أطلقها ساسة كبار، منهم وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور. 

وهكذا شكلت الأيديولوجيا الغربية حول المسلمين، ومعها الأيديولوجيا الصهيونية الداعية إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، تحالفاً مدعوماً بالمصالح نتج عنه تأسيس إسرائيل تحت شعار وأسطورة: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، والتي صوّرت أرض فلسطين التاريخية لا شعب فيها، وأن الموجودين ليسوا سوى بدو رحل لا وطن لهم، على عكس اليهود فهم شعب بلا أرض، و «أرض الميعاد» التي وعدهم الرب بها هي أرض فلسطين، حسب الأساطير الصهيونية. 

 والانسجام في المصالح نجده في دعوة ثيودور هرتزل عام 1896 إلى تأسيس إسرائيل في أرض فلسطين، بوصفها قوة متقدمة هي امتداد للحضارة والحداثة الأوروبية، وعنصر ردع للبرابرة والمتخلفين في آسيا والمنطقة.

كما أن هذا الانسجام هو الذي يفسر لنا، أن استعمال أكثر الأسلحة فتكاً، والتي لا تفرق بين عسكري ومدني وتخالف كل الأعراف والقوانين، يلقى الدعم والتأييد من طرف «المعسكر المتحضر» في العالم اليوم، والذي يدعوه رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى الاتحاد والتكاتف، في سبيل استكمال مهمته الحضارية التي تجيز له، وبدعم غربي معلن وصريح، من تنفيذ مشروع الإبادة والتطهير «للمتوحشين» و «البرابرة»، كما يؤثر نتنياهو تسميتهم.

والمفارقة أن هذه الأسلحة الأكثر حداثة وتطوراً مقارنة مع أسلحة الخصم، لا تفرق بين عسكري ومدني، كما يظهر من نسب أعداد الشهداء من المدنيين النساء والأطفال.

وفيما يفترض في «العالم المتحضر» إدانة من يذهب بالحرب إلى أشكال غير مسبوقة في القتل العمد، والتي تخالف كل الأعراف والقوانين، نرى أن هذا العالم يبدي الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي والتأييد والتعاطف الكامل غير المشروط، بل ويبرر ويكذب ويضلل المستمعين عبر شتى وسائل الإعلام من أجل نصرة رواية المحتل وادعاءاته.

 لكن هذه المهمة الحضارية التي تحمل لواءها اليوم إسرائيل في المنطقة يسير إلى جانبها مشروعاً آخر هو مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي أعلن عنه منذ انطلاق العمليات.

وغير بعيد أن صمت معظم حكومات المنطقة، يقف خلفه تماهيها مع هذا المشروع الذي يكرس إسرائيل دولة فاعلة، قوية، منسجمة مع محيطها، كما يعيد ترتيب واقع المنطقة بما يخدم مصالح الكيان والدول الكبرى، لا مصالح دول المنطقة وتطلعات شعوبها. 

ويبقى أن هذا المشروع إذا ما كتب له النجاح، فإن القضية الفلسطينية ستشهد فصولها الأخيرة، وأن كل الوعود بإنشاء دولة فلسطين، وعودة اللاجئين، وتعويض المتضررين لا قيمة لها، ما دام الأقوياء والفاعلون في العالم اليوم (الغرب وإسرائيل)، هم من يقررون حاضر ومستقبل دول المنطقة.