عكازة حجازي

الصفحة الاخيرة 2023/12/28
...

د. طه جزاع
اعتدنا سماع جملة جاهزة ضمن عددٍ من الأحكام القاطعة التي تسود حياتنا الثقافيَّة والأدبيَّة، تؤكد بأنَّ "عصر الشِعر قد انتهى"، فلم تعد هناك منصَّة، ولا شاعرٌ، ولا جمهورٌ يصفق حماسة ونشوة، ويطلب من الشاعر أنْ يعيدَ مقطعاً من قصيدته، بصيغة الأمر المُستحسن "أعِد"، وأحياناً يتلطفُ أحدُ المستمعين في المقاعد الأماميَّة عادةً بكلمة "أحسنتم" تسبق فعل الأمر "أعِد"!. يقولون لك إنَّ الشِعر لم يعد مواكباً لعصر التحولات الكبرى الذي فقد فيه الإنسان ميزة الاسترخاء والاستماع ووقت الفراغ، فكل شيء يبدو مسرعاً، فلا وقت للراحة، ولا فرصة للتذوق والجَمال والخيال، ولا مكان للشعر والشعراء.

ثلاثة شعراء يعيدون للشعر العربي مكانته، وسمعته، ورقيه، وجماله، جمعتهم جلسة نقاشيَّة في ختام "أيام العربيَّة" التي نظمها مركز أبو ظبي للغة العربيَّة، واشتملت على ندوات ومعارض وفعاليات موسيقيَّة وغنائيَّة استمرت ثلاثة أيام أقيمت تحت شعار اليونسكو "العربيَّة لغة الشعر والفنون"، تحدثوا عن الشعر في عصر التطورات التكنولوجيَّة، وعن الشباب العربي وكيفيَّة استقبالهم للشعر الذي يبدو كأنَّه لعصرٍ آخر غير عصرهم. وفي ختام الجلسة النقاشيَّة، أسمَعوا الحضور شعراً لا على منصةٍ وصوتٍ جهوري مرتفعٍ كما جرت العادة في المهرجانات الشعريَّة، بل وهم جلوسٌ في مقاعدهم على المسرح المرتفع قليلاً عن الجمهور. لم تمنع الـ"88" سنة التي يحملها أحمد عبد المعطي حجازي على كتفيه آنفاً متحدياً، ولا منعته عكازته، من أنْ يلقي بحماسة عالية قصيدته "طرديَّة" وهو بالقبعة الفرنسيَّة، ولا منعت السنوات الـ "78" علي جعفر العلّاق من التحليق في سماء قصيدته "ربما"، وكان أصغرهم عمراً، الشاعر التونسي المنصف الوهايبي"74 عاماً". هل شاخ الشعر العربي؟.. ربما".

أتاح لنا الناقد حسن ناظم الذي حضر الجلسة النقاشيَّة الشعريَّة، الاستماع إلى الشاعرين حجازي والعلّاق، في تسجيلين مصورين نشرهما على صفحته في الفيسبوك. تألقا في الإلقاء، وأعادا شبابهما، وشباب الشعر، وشباب الجمهور الذي صفَّقَ إعجاباً بشيوخ الشعر، وكان حجازي يبدو مثل آلهة الأولمب وطائر القطى يتبعه من بلدٍ إلى بلد، فقد اختار أنْ يحيي في هذه الجلسة شكلاً منسياً من أشكال القصيدة العربيَّة، "الطرديات" التي قيلت في رحلات الصيد. بينما ألقى العلّاق مقاطع من قصيدته "ربما" وراح منتشياً في سماواتها: ربما شحُبتْ لغتي مرةً.. ربما وهَنَ الحُلْمُ منيْ هنا أو هناكْ.. ربما فاتني أنْ أهاجرَ، أو فاتني أنْ أقيمْ.. ربما فاتني أنْ يكون الندى حصتي لا الهشيمْ.

ربما أعادت عكازة حجازي الروحَ إلى الشعر في صحوة متأخرة. ربما كان الندى حصة العلّاق لا الهشيم.. ربما أرواحنا التي نسيت الشعر هي الهشيم.