لماذا يحدث كل هذا؟

آراء 2023/12/31
...

رعد أطياف

يمكن اعتبار النظام الديمقراطي في بلد يُعاني من اختلال مؤسسي، أشبه بالقادح الذي انفلت عن طريق الخطأ.
لا نريد أن نقلل من حصيلة السنين الماضية، أعني حصيلة الخبرة التي خرج بها الناخبون بالذات.
ذلك أن كل استهانة بوعي الناخب تعني أننا لم نفهم تطور الوعي السياسي لدى عموم العراقيين.
سنسمع ذات النغمة النشاز التي تقلل من قيمة النتائج التي راكمها العراقيون طيلة أكثر من عقدين، وتصفها بـ «الفوضويَّة».
لا أظننا سنختلف حول ضعف النتائج الأخيرة لانتخابات مجالس المحافظات.
كما لا أظننا - رغم أني أشك في ذلك- سنختلف عن الإحساس بالمرارة الذي رافق الناخب العراقي طوال هذه المدة. علينا الآن أن نجمع كل هذه الانطباعات ونضعها في أفق واحد، ترى ماذا ستفسر لنا حين نسنتنطقها؟، لا شيء جديد حول ما تمَّ توضيحه أعلاه.
هذا القادح، النظام الديمقراطي، انفجر في وجهنا بشكل مفاجئ من دون تحذيرات مسبقة.
لقد جرت عملية استباق غير منطقية: الإسراع بالانتخابات على حساب بناء الدولة.
الجواب الوحيد على هذه الملاحظات معروف، سيكون عبر الاستنكار التالي: لا بديل، إذن، سوى الطغيان. معلوم أن الديمقراطية علاج فعّال للطغيان. إنها تلجم النفس البشرية عن ميلها الجنوني تجاه السلطة. الديمقراطية تلجم أشخاصاً مثل الرئيس بايدن، يستقتل لتجديد رئاسته للبيت الأبيض مع أنه يعلم بالكاد تحمله ساقاه للمشي بضعة أمتار، فضلاً عن التخريفات التي يطلقها بين الحين والآخر. جميع المؤشرات تشير إلى أن الرجل عاجز عن كثير من الأمور، لكنّه، كما يبدو، توّاق للموت على مكتبه الرئاسي.
إذا كان هذا يحدث في الديمقراطيات العريقة، ديمقراطيات تتمتع باستقرار أمني، ومن ثمة اقتصادي وسياسي، ومؤسسات عريقة، فما بالك في نظم سياسية ناشئة، ما زالت في طور البناء والتكوين؟ يمكننا أن نعالج الموقف من منظور آخر. أعني، نعالجه بصورة واقعية لكيلا نقع في فخ دائري محكم مفاده: عدم الديمقراطية تساوي الاستبداد، وضعف مؤسسات الدولة يعمق الفوضى، وأما الاستبداد وأما الفوضى، وكلاهما يلتقيان في نقطة حرجة: كيف نبني دولة ما لم تكن نخبة سياسية منتخبة؟، وكيف ننتخب طالما لم يتحسن الوضع المؤسساتي؟، لكي نحسم دائرة الجدل المنطقي هذا، نقرر أن الديمقراطية ضرورة قصوى، بل واجب مقدّس في وضعنا العراقي.
إذن، لا نعتبر الديمقراطية «القادح الذي انفلت عن طريق الخطأ»، بل هي ضرورة وجوديَّة: أما أن نكون أو لا نكون. في النظم الديمقراطية الناشئة، عادةً ما تتجه النخب لبناء المؤسسات، ومحاربة الفساد، وصناعة هوية وطنيّة، وتحسين نوعية الحياة للمواطن، وتأسيس مجتمع مواطني يتحرك ضمن ثنائية الحقوق والواجبات. يمكننا أن نقول الكثير عن الرفاه السياسي الذي يمكن أن تقدمه الديمقراطية لو كانت مهمومة بالبناء، لكن نكتفي عند هذا الحد تجنباً لأي مبالغة. فقط نشير بالخطوط العريضة، لكي تغدو هذه الخطوط، كما نأمل، الأفق الذي يحثنا على التفكير في وضعنا السياسي المعقد.
لا نحاول هنا تتبع عثرات وعيوب العملية السياسية، فالنصوص التي كتبت بخصوص هذا الشأن غزيرة للغاية، ولم يعد عراقي، سواء في الداخل أو الخارج، جاهل بالأحداث. ونحن، كما يبدو، ومنذ سنين نتكلّم مع أنفسنا، إنه مونولوج داخلي، أو تيار نفسي ينتمي إلى عالم ماقبل الكتابة، ونحن نحاول ترجمته على شكل كتابة!، كل ما نكتبه، كل ما نتأملّه، أو كل الذي كتب سابقاً، يمكن أن نضغطه بتكثيف شديد، ونختزله بسؤال واحد لا غير، وإن كان يبدو ساذجاً للغاية، سؤال يستدعي معه كل تداعيات الألم العراقي: لماذا يحدث كل هذا؟.