كيس القاضي

الصفحة الاخيرة 2023/12/31
...

محمد غازي الأخرس

ويقولون : خشِّش لبيتك حرامي ولا تخشِّش بنَّه (بنَّاء)، وفي رواية أخرى: خشِّش لبيتك حرامي ولا تخشِّش عمَّالة، والمعنى أنه أسلم لك أن تُدخل اللص إلى بيتك على أن تُدخل عامل بناء، لأن الأول قد ينتهي بسرقة ما عندك من مال، فتكون خسارتك محدودة معلومة، ومتناهية، أما البنَّاء فلربما ينتهي عمله بخسارتك جميع مدخَّراتك، فتضطر إلى الاستدانة وبيع ما عندك من ممتلكات لتُكمل ما شرعت فيه.
قصة المثل كما يرويها عبد الرحمن التكريتي تتعلق بقاضٍ أراد بناء دار فاستشار أحد الأسطوات فقال له: إنها تكلف 500 مجيدي، ففرح القاضي لتوفُّر المبلغ لديه.
لكن حين شرع البنَّاء بالعمل ‏نفدت أموال القاضي، فاستدان ضعفها ولم تنته الدار، ثم اضطر إلى بيع ما يملك دون جدوى،. حينئذ، أخذ القاضي بعض أدوات البنَّاء من شاقول ومالج وفأس، ووضعها في كيس وحمله معه إلى المحكمة، ووضعه قرب القرآن.
ثم طلب من الشهود أن يقسموا بصيغة جديدة فيقول للشاهد : كول الله يخشِّش هذا لبيتي إذا ما أحجي الصدك، فيرتعد الشاهد ويقول : شلون هيج أحلف، بلكي بيه حيايه لو عكارب، فيرد القاضي: ولك أنكس، يعود الشاهد ليقول : ما أحلف، بلكي بيه سم، فيرد القاضي: ولك أنكس، ثم يروي له حكايته مع البنَّاء، وكيف جعله يبيع كل شيء يملكه، ثم ينتهي بالقول : خشِّش لبيتك حرامي ولا تخشِّش عمَّالة، فصارت مثلاً.
الحال أن داعيكم جرَّب هذا أكثر من ثلاث مرات، آخرها انتهت قبل أسبوع، وفي كل مرة أقسم ألا أدخل العمَّالة إلى بيتي، ثم أفعلها مجبراً بحكم (القوي على الضعيف).
فأنا ابتليت بأم عيال تمقت الرطوبة في الحيطان وتؤمن بفلسفة ورثتها عن أمها، وهي أنه يجب على كل عاقل أن يجدِّد بيته كل سنتين أو ثلاث، فيعيد تبييض الحيطان ومعالجة الرطوبة وصبغ الأبواب والشبابيك، وإلا تهاوت الدار وخربت، وهذه لعمري فلسفة عظيمة لو توفَّر لها الواهس، وأحرى بالدول أن تفعلها وليس العائلات فقط. إنه مجرد ترميم، هكذا يقول المتفائلون كالقاضي الذي مرَّ ذكره، أما الواقعيون المجرِّبون من أمثالي، فعلى يقين أن الترميم يجرُّ خلفه قافلة من الترميمات والتغييرات.
قد تبدأ مثلاً من تعديل حائط مائل، لتنتهي بإضافة حجرة، أو قلع أرضية وتجديدها. وفي الطريق تصادفك عثرات و”دفرات” لم تحسب لها حساباً، فينكسر هذا “البوري” أو ينقطع ذلك “الكيبل”, فيصبح الترميم ترميمين وتنفتح عليك حنفية صرفيات ليست في البال ولا في الخاطر. ناهيك عن ذلك، غالباً ما يعلو شعار “احنه مشتغلين مشتغلين” فيكبر المشروع وتتوسع التخطيطات، لاسيما إذا كانت أم عيالك فنانة جامحة الخيال، ومن نوع يتساوى عندها الجانب الوظيفي مع الجانب الجمالي، وأحياناً تفضِّل الجمالي وتستقتل لإعلائه ولو زادت الكلف أضعافاً.
على إن حرج حساب البيدر المخالف لحساب الحقل ليس الحرج الوحيد في البناء، فثمة تفادي الأخطاء والغش الذي يعجز عنه أشطر الرجال، فكيف بأمثالي ممن لا يجيدون سوى الكتابة، الذين بينهم والترميم ما صنع الحداد، كيف بهم ومن لهم؟
الجواب أن لا أحد لهم ولا حل أمامهم سوى أن يقسموا على ذلك الكيس الذي وضعه القاضي أمام الشهود وجعلهم يحلفون عليه: الله كون يخشِّش هذا لبيتي إذا ما أكول الصدك.