أحمد الشطري
لا يختلف اثنان حول أهمية التطور التقني، والذي ساهم بشكل كبير في تذليل الكثير من الصعوبات، التي كانت تواجه الانسان في سعيه الحثيث من أجل العيش برفاهية ويسر، وبناء مجتمع متحضر قادر على استغلال كل ما حوله من مقومات العيش بصورة مثالية، ومنذ القرن التاسع عشر بدأت عجلة التطور التقني تُسرِّع من وتيرة دورانها حتى بلغت في مطلع هذا القرن ذروة تطورها، والذي ساهم في جعل العالم عبارة عن قرية كبيرة، تعيش تحت ظل فضاء مفتوح على مختلف المعارف والثقافات بما تنطوي عليه من سلبيات وإيجابيات، مما أدى إلى تفتت أو تلاشي الكثير من الخصوصيات الذاتية والاجتماعية.
ويبدو أن عجلة التطور هذه ستظل دائبة الدوران ولن تقف عند حد معين، بعد أن أسهمت وما زالت تسعى بالإسهام في تحييد الفعل الجسدي للإنسان، وتعويضه بالجهد الآلي القادر على إنجاز ما تعجز عنه القوة الجسدية للإنسان، وكذلك في هيمنتها على الرغبات النفسية والعاطفية من خلال وسائط الميديا وغيرها، والتي لم تتوقف عند حد إنتاجها الجماعي، بل تعدت ذلك إلى الإنتاج الفردي الذي ساهم في إبراز نجوميات ترتكز في الكثير من برامجها على المحتوى الفارغ، والذي أسهم بشكل كبير في صنع التفاهة وجعلها عاملا فاعلا في مختلف المجتمعات.
عجلة التطور هذه بدأت تهدد الحركية المنتجة للعقل البشري، والتي ابتدأتها بأجهزة الحاسبات البسيطة التي أسهمت في تسريع انجاز العمليات الحسابية بدقة متناهية، مما حيد الجهد العقلي للإنسان والذي كان يتطلب رياضة فكرية تتطلب وقتا أطول مما تنجزه تلك الحاسبات وأقل دقة، وهو بكل تأكيد فعلٌ مغرٍ من حيث دقة النتائج واختصار الوقت، ولكنه عَمِلَ بشكل كبير على تأسيس مساحات للخمول الذهني، من خلال زعزعة ثقة الإنسان بنتائج عملياته الحسابية أولا، وخلق حالة من الحرص على السعي لتقليل الزمن المنفق في إنجاز تلك العمليات ثانيا.
هذه الخطوة ربما كانت الأولى في مسعى (العقل التقني) لتحييد العقل البشري، والتي تبعتها العديد من الخطوات في مختلف المجالات، ويبدو أن طموح (العقل التقني) لم ولن يقف عند حد معين، وقد بدأت سلطة (الذكاء الصناعي) تتسع شيئا فشيئا حتى باتت تهدد مساحة المنتج الإبداعي، من خلال العديد من النماذج التي لا تقل إدهاشا وإقناعا عن منتج العقل البشري، فعلى المستوى الفني بات من السهل تغذية ذلك العقل بمجموعة من المعطيات لإنتاج لوحة فنية أو إنتاج مقاطع فديوية أو كتابة بحث أو مقال، وليس هذا فقط بل وصل الأمر إلى إمكانية كتابة قصة أو رواية أو قصيدة شعر، وإذا كانت هذه المنتجات الإبداعية المبكرة تحتاج إلى نوع من التدخل البشري في عمليات الترتيب أو التعديلات البسيطة التي تضفي عليها نوعا من الرصانة، فإن طموحات ومساعي (العقل التقني) لن تعجز أو تكتفي بهذا القدر من الفعل التحييدي للعقل البشري، بل إن هذه هي الخطوات الأولى والتي -من دون شك- ستتبعها خطوات أكثر جدية ورصانة وتطورا مما يوسع - وبشكل يدعو إلى القلق- من مساحات الخمول الذهني.
إن كل تطور تقني لا شك بأنه يسهم في توسيع مساحة رفاهية الإنسان، ولكنه – وبكل تأكيد- سيستنزف الكثير من قدراته الجسدية والعقلية وربما حتى العاطفية والنفسية، وهذا ما يمكن أن يمثل نوعا من القتل البطيء للقيم الإنسانية بمختلف أشكالها وتمثلاتها، فمثلما ساهمت الصناعات المختلفة في فضِّ عذرية البيئة، وتحويلها إلى مومس تجتمع في رحمها مختلف القذارات، التي ساهمت في إنتاج مختلف المهجنات من الجراثيم والأوبئة، ساهمت التقنيات الحديثة في تخريب بيئة النفس البشرية وجعلها مكبّا للعديد من القذارات المغلفة بألوان براقة ومغرية في ظاهرها، بينما ينطوي داخلها على العديد من الجراثيم والفيروسات النفسية المدمرة.
إن الإنسان- وبلا شك- بات يقف في المنطقة الحرام للصراع الدائر والمستمر بين رغبات الإنسان في العيش المرفه، وبين الوسائل المساعدة في توفير تلك الرفاهية، وهو صراع تُستخدم فيه كل أسلحة الدمار الشامل التي يصعب معها التدرع أو الاحتماء بالسواتر، فهي ذات قدرة فائقة على اجتياح وتفتيت كل ما يقع في مساحة تشظيها، تلك المساحة التي لا يمكن التنبؤ بحجمها أو معرفة
حدودها.