الحُبُّ الأبَدي

الصفحة الاخيرة 2024/01/04
...

د. طه جزاع

يوم ارتحلتْ الفلسفة اليونانيَّة العقليَّة الخالصة إلى الشرق، فإنَّها تنازلت عن الكثير من تعقلها الجامد ومنطقها الجاف، لتنغمس بالروح الشرقيَّة في مدرسة الإسكندريَّة، ولتنشأ على يد افلوطين الاسكندراني فلسفة جديدة هي امتزاجٌ خَلّاقٌ ما بين العقل الغربي والروح الشرقيَّة. وقد جذب هذا الشرق الروحاني بسحره وفيوضاته وإشراقاته، الكثيرَ من المستشرقين الذين سئموا عقلانيَّة الغرب، ونذروا حياتهم للتقرب من منابع الروح، والارتواء من بحر التصوّف العذب الخالص من شوائب الدنيا، وملذات الحياة.
المستشرقة الألمانيَّة أنَّا ماري شيمل هي من هؤلاء الذين جذبتهم روح الشرق بقوة، فكرست حياتها لمشروعها الاستشراقي، وللتصوّف الإسلامي على وجه التحديد، إذ وجدت نفسها وقد التحمت كلياً بموضوعات بحوثها في التصوّف ورجاله ومقاماته وأحواله، منذ أنْ اطلعت يوماً وهي ما زالت صبيَّة على حكاية الحكيم الهندي المسلم التي تنتهي بالعثور على نعش أكبر ملوك العالم وقد كُتبت عليه جملة أصابتها بما يشبه الصاعقة «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، ثم أصابتها صاعقة روحيَّة ثانية باطلاعها على ديوان المثنوي لجلال الدين الرومي، ومنذ وقعت أشعاره بين يديها بقيت مخلصة له، وترددت مرات كثيرة لزيارة ضريحه في مدينة قونية وسط الأناضول. ولشدة انجذابها للشرق الإسلامي، وانغمارها ببحوثٍ حول الثقافة الهندو – إسلاميَّة، وقيامها بالتدريس في كليَّة الإلهيات في أنقرة، فقد اتخذت من «جميلة» اسماً إسلامياً تُذيل به بعض بحوثها وكتاباتها، مقترناً مع اسمها الألماني أنَّا، أو آنة كما تُكتب وتُلفظ أحياناً، وفُتنت جميلة بكل ما يمتُّ للإسلام بصلة، وتأثرت عميقاً بالطقوس المولويَّة، وما يرافقها من موسيقى دينيَّة تجعلها في حالة من «نشوة الوصال» على طريقة المتصوفّة العشاق.
قبيل وفاتها وهي في الثمانين، تذكرت شعار طفولتها الإسلامي «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» وطلبت أنْ تُنقشَ كلماته على شاهدة قبرها بالخط العربي، وتمَّ لها ذلك، وتحقيقاً لأمنيتها قُرأت الفاتحة على نعشها في ختام قداس بإحدى كنائس مدينة بون في شباط 2003. تقول في مذكراتها «حياتي الغرب – شرقيَّة»: أنا أعتقد باليوم الآخر الذي لا نستطيع أنْ نصفه ولا أنْ نتصوره، وذلك حتى نُحلق ونختفي في الحُبّ الأبدي.
كانت الروحانيَّة هي بضاعتنا الشرقيَّة التي طالما ألهمت الغربيين وجذبتهم إلى نورها الوهاج، قبل أنْ نخسرها في معركة الحياة، ونحن عنها غافلون.