باقر صاحب
ما زالت مقالات الرأي في الصحافة العربية، تسلّط الأضواء يومياً على أفاعيل الكيان الصهيوني في حربه الوحشية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، ويرى كتّاب الرأي والمحللين السياسيين، أنه بات من المستطاع القول بأنّه كيانٌ عصابي إجرامي، وليس دولةً بالمعنى القانوني لمفهوم الدولة، وأنه غير مأمون الجانب أبداً.
ولم تنكشفْ طبيعة هذا الكيان، مثلما كشفتهُ الحرب على غزّة، فقد أبان وحشيةً غير مسبوقة، بقتله المدنيين العُزّل من أطفالٍ ونساءٍ وكبار السّن، ولم يكتفِ بكلّ ذلك، بل تعمّد إلى استئصال كلِّ الشواهد التاريخية والصروح الحضارية التي تشهد بأنَّ على هذه الأرض دولةً اسمها فلسطين. «الجزيرة نت»، نشرت تقريراً مُفصّلاً عمّا فعلته آلة الحرب الصهيونية إزاء تلك الشواهد والصروح، حيث» أظهرت مشاهد خاصّةً حصلتْ عليها الجزيرة نت، صورَ دمارٍ واسعٍ تعرَّضتْ له مساجدُ ومبانٍ تاريخيةٌ ومؤسساتٌ تعليميةٌ وثقافية» ويؤكد التقرير أن الكيان الغاصب بأفاعيله الهمجية هذه، بحسب أستاذ التاريخ في جامعة القدس المفتوحة البروفيسور مروان جرار، يستهدف «كيّ الوعي الفلسطيني».
ومن تلك الشواهد والصروح التي دُمّرت تدميراً كليّاً النصب التذكاري للجندي المجهول، وهو» من أهمّ معالم قطّاع غزة، وذات مكانةٍ كبيرة، حيث ترمز لنضال الشعب الفلسطيني»، ومركز رشاد الشوا الثقافي، على اسم رئيس بلدية غزة السابق، رشاد الشوا، إبان سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي». وشهد هذا المركز، كما يشير تقرير الجزيرة نت، فعالياتٍ مهمةً في تاريخ القضية الفلسطينية منها «استضافته لجلسات المجلسين الوطني والتشريعي»، كما دمّر جيش الاحتلال مركز الإرشيف في المبنى الرئيس لبلدية غزة» ما أدّى إلى إعدام آلاف الوثائق التاريخية التي توثّق مباني المدينة ومراحل تطوّرها العمراني».
ويمضي التقرير في ذكر عديد الشواهد التي ترمز إلى عراقة تاريخ الشعب الفلسطيني على أرضه، ومراحل نضاله الطويل من أجل تحقيق النصر في قضيته العادلة.
ومن أحدث ما نُشر في هذا السياق، تعقيبٌ للمتخصّص في علم الآثار والتنقيب فضل العطل، نشرته «القدس العربي»
بتاريخ 30 - 12 - 2023 ، ضمن مقالٍ بتوقيع اسماعيل بعد الهادي» إن الاحتلال يستغلّ الحرب في تدمير الموروث الثقافي داخل قطاع غزة، خاصّةً وأنَّ القطّاع يضمُّ كنزاً كبيراً وثميناً من المواقع التاريخية العريقة الممتدّة لمئات السنوات، ويحاول من خلال ما يفعله طمس تاريخ غزّة القديم، وهذا ما بات واضحاً من القصف المتواصل والمُتعمّد للمراكز والمكتبات والمواقع التاريخيّة المنتشرة في مختلف مناطق القطاع». وينوّه إسماعيل عبد الهادي إلى أنَّ الهدنة التي تمّت في 24 تشرين الثاني من العام الماضي بيّنت حجم التدمير الكبير للمواقع الأثرية والثقافية، ولأجل إدانة الاحتلال جرت عمليةُ توثيقٍ هذا التدمير المُتعمّد بالصور، ويستطرد عبد الهادي» بعد انتهاء الهدنة عادت إسرائيل مرّة أخرى إلى استكمال مسلسل تدمير المواقع والرموز التاريخية في قطاع غزة، عدا عن سرقة الجيش العديد من القطع من داخل المتاحف وسط مدينة غزة وتحطيم العديد من القطع الأثرية». نخلص إلى القول ان كيان الاحتلال بحكوماته المتعاقبة وجميعها متطرّفةٌ وعنصريةٌ إزاء الفلسطينيين، يعاني من عقدة النقص، ازاء الحضارة الفلسطينية العريقة منذ مئات السنين، حيث ازدهرت هنا الحضارات الكنعانية والرومانية والبيزنطية، وغيرها من الحضارات القديمة، كلّها تدلّ على عراقة فلسطين أرضاً وشعباً. ما يجري، إذاً، حربُ إبادةٍ شاملةٍ للفلسطينيين، أرضاً وبشراً وتاريخاً، للانتقام من عقدة النقص الحضاري لديهم.
كان اليهود شتاتاً، فأصبح لهم كيانٌ على أرض فلسطين، بحسب وعد بلفور، وأصبح الشغل الشاغل لمن كانوا شتاتاً المضي، بهمجية، في تنفيذ تطلعاتهم التوسعية، وشعارهم من النهر إلى البحر، في حين أنّ سكان الأرض الأصليين هم الفلسطينيون، ويبغي الغاصبون بكل غطرسةٍ وعنصريةٍ أن يجعلوا الأصلاء شتاتاً في صحراء سيناء وغيرها، كما يتردّد، ولهذا يسعون إلى إمحاء تاريخ الفلسطينيين إمحاء تاماً. أين من كلِّ ذلك، أميركا ودول الغرب المتحضر، التي أدهشت، مواقفها المؤيدة لكل ما يفعله كيان الاحتلال، غالبيّة دول العالم. فعلى الغرب ألاّ يمضي، بعيداً، عكس المنطق الإنساني وقيم الديانات السماوية، بما يعكس ازدواجيته المقيتة في التعامل مع القضايا الدولية الساخنة. وعلى الدول العربية، التي وثقت بهذا الكيان، مراجعة سياساتها تّجاهه، لأنّهُ سيزداد تمادياً وغطرسةً، إن لم يجدْ أنداداً له يقفون إزاءه بالمرصاد.