مواقع التواصل الاجتماعي: أوهام وحقائق

آراء 2024/01/10
...

رعد أطياف

مع صعود نجم مواقع التواصل الاجتماعي، ترافق في تلك الأثناء ميل حماسي لاحتقار الواقع الفعلي.
“ثورات” مزعومة حتى على مشاعر الإنسان، ومحاولة تأطيرها بتمثيلات رمزية باهتة تعطي مدولات كاذبة عن مشاعرنا الخام.
وليت الموضوع توقف عند هذا الحد، بل وصل هذا التعميم والاختزال إلى فكرة التنظيمات السياسية.
وما زالت الرهانات مستمرة على تمييع فكرة التنظيم.
صحيح أن هذه المواقع تمتلك قدرة تحشيدية هائلة، ويمكنها ضم الآلاف، بل الملايين، “لكنها أيضاً وسائل كاذبة” بتعبير غسان سلامة، حيث تتضح قدرتها الواهنة في تعبئة الجماهير وتنظيمهم على مستوى الواقع الفعلي.
إن هذا التحشيد الرقمي لا يختلف عن قطرات الماء المتساقطة من السماء؛ سرعان ما تتلاشى حين تصطدم في الأرض، أو في أحسن حالاته، ضباب مؤقت سرعان ما تطرده الشمس؛ شمس الواقع وتعقيداته التي هي أوسع من أن تختزلها صرخات حماسية هنا وهناك.
وللسرعة الهائلة لإيصال المعلومة في هذا العالم المذهل، عززت أوهام لذيذة من ضمنها، إمكانية إسقاط أنظمة الحكم وإحداث التغيير من منصات مواقع التواصل الاجتماعي.
امتثالاً لهذا الميل العارم سارع بعض الكتّاب، اعتماداً على بعض الدراسات الغربية، لـ”لتنظير” لفكرة عدم ضرورة التنظيم ولا مركزية القرار.
وهي محاولات انتهازية وشعبوية لا تخلو من جهل مريع بواقعنا العربي المتهالك، حيث تسود فيه الفوضى السياسية، و”ديمقراطيات” متعثرة، وقاعدة تنظيمية هشة، كان المُنتظر إغناءها لا التنكر لها.
والنتيجة: فشل تنظيمي مريع منيت به القوى الجماهيرية، الفيسبوكية، التي كانت تراهن على مثالية التنظيم وواقعية الفوضى!
 في بعض الأنظمة السياسية التي تجيز التنظيم السياسي، كالعراق مثلاً، أصرت الأجيال الجديدة على رفض التنظيم.
لكن، وبعد الخسائر المريعة، اتخذ بعض الشباب تنظيمات لا تتمتع بحاضنة شعبية، في حين كانت الفرصة الجماهيرية مواتية في حينها، سواء في ثورات الربيع العربي، أو ما شهدناه من أحداث تشرين.
كانت الفرصة التنظيمية والحاضنة الشعبية حاضرتان وبقوة.
لكن أوهام مواقع التواصل ظلت هي العقل المفكر في هذه الفوضى السياسية، وانتصرت، أو ألجمت، كل الرهانات الواقعية التي كانت تلح على فكرة التنظيم السياسي.
ثمة رهانٌ آخر لا يقل غرابة عن الأول، وهو رهان البراءة، رهان الحيادية، والحرية التي تكفلها هذه المواقع.
لقد جربنا هذه الحريات في مناسبات عدة ورأينا كيف تعاملت إدارة فيسبوك، مثلاً، في قضايا المثلية، وبالأخص قضية الإرهاب الصهيوني، الذي يبدو فيه هذا الأخير متعالياً عن كل الحقائق التاريخية، واستثناء من كل خطاب نقدي على الإطلاق، وعدم امتثالنا لهذه “القاعدة الذهبية” سنغدو معادين للسامية.
لكن سكّان العالم الأزرق لا زالوا مصرين على تلك البراءة المزعومة، رغم أننا لا ننكر هامش الحرية التي تتيح للكثير منا الإدلاء بأراءه (التي هي ليست سوى تفريغ مؤقت)، لكنها لا تحسن من واقعه على الإطلاق. يمكن وصف هذه الصرخات”الحرة”، التي تحدث في مواقع التواصل أشبه بالتمردات التي تحدث في السجون.
في نهاية المطاف العالم الرقمي ليس عالماً محايداً وبريئاً فهو عالم له قيوده وأنماطه وقيمه الخاصة؛ أنه العالم التي تخضعه القوة المهيمنة لمشيئتها، وتقرر ثنائية الخير والشر طبقاً لمنظومتها القيمية. قررت هذه المنظومة أن تناول العدوان الصهيوني، مثلاً، على غزة لا ينتمي إلى فعل الخير، بل يٌحال إلى حقل دلالي مغرق بالشر والعدوانية.
أن قساوة الواقع الفعلي والتحديات الجسيمة التي نكابدها فيه لا تجعل من العالم الرقمي وردياً، ولا تجعله بديلاً ناجحاً.
وبشكل أخص، لا تجعله بديلاً سياسياً لكونه يمتلك القدرة أو التطبيل السحري لتهيئة الحشود.
فمنذ القدم كانت الناس تجمعها الطبول وتفرقها العصي.