ميادة سفر
لم يعد التلفزيون الأداة الوحيدة أو الأكثر تأثيراً اليوم على الرأي العام، وفقاً لما رأى المفكر وعالم الاجتماع بيير بورديو في كتابه «عن التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول» الذي قدمّ فيه دراسة حول كيفية التحكم بالأخبار التلفزيونية وكيف أنّ التلفزيون ينتج المفكر السريع، فالانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إليها في أي زمان ومكان، جعل منها أدوات إضافية تسهم بشكل كبير في التلاعب بالعقول، من خلال بث الأخبار والفيديوهات المفركة أحياناً على غرار ما كان يفعل التلفزيون، وانتقاء الأخبار التي تحاكي سياسة القناة أو توجه أصحاب الصفحات، ولم يقتصر الأمر على بث الأخبار والصور، بل تعداه إلى التلاعب باللغة والمصطلحات والألفاظ، كأن يتحول صاحب الأرض إلى إرهابي، والمحتل صاحب حق مثل ما يجري في فلسطين اليوم ومنذ عقود.
يشكل التضليل الإعلامي أحد أكثر الأساليب رواجاً في العقود الأخيرة وقد استخدم من قبل كل الأطراف المتصارعة والمختلفة سياسياً، فتارة تلجأ السلطات إلى التقليل من أعداد المتظاهرين ضدها بشكل منافٍ للحقيقة، وطوراً تلجأ المعارضة إلى تضخيم حجم الممارسات التي تتعرض لها من قبل خصمها المتمثل بالسلطة الحاكمة، كل طرف يحاول سحب البساط إليه بما يخدم سياسته والأيديولوجية التي يتباها والأفكار التي يحاول إيصالها، محاولين تجميع أكبر عدد من المؤيدين والداعمين سواء في الداخل أو الخارج، ومستدعين في بعض الحالات دعماً عسكرياً دولياً للوقوف إلى جانبهم.
في كل ما يبث عبر الفضائيات والمواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي يبدو المتلقي ورأيه آخر هموم القائمين عليها، ذلك المتلقي والمشاهد الذي يبحث بدوره عما يخفف عنه وطأة الأحداث أو أملاً بفرج قريب أو انتصاراً ولو وهمياً يحصل عليه، في مقابل قلة ممن يدركون التزييف الذي يتعرضون له وينظرون للأمور بموضوعية محاولين إيجاد الخبر الصحيح البعيد عن أية تحزبات أو انتماءات رغم ما يعتري هذا البحث من صعوبات وما قد يعرض صاحبه لمشاكل من قبل أي طرف يجد في إظهار الحقائق تهديداً لمصالحه ونسفاً لسياسته التي يتبعها.
في جانب آخر لا يقتصر التلاعب بالعقول على الخصوم والأعداء، بل لطالما لجأت الدول والحكومات إلى هذا الأسلوب في خطابها الموجه إلى جمهور مواطنيها، عبر تقديم المعلومات المغلوطة واختراع أعداء وأخطار وهمية وإلهاء الشعوب بأزمات سياسية تارة واقتصادية واجتماعية تارة أخرى، لإبقائها بعيدة عن مشاكلها الحقيقة خوفاً من لجوء تلك الشعوب إلى إحداث الثورات المنادية بالحرية والعدالة الاجتماعية، وفي بلادنا العربية الكثير من الأمثلة على ما تم من خلاله التحكم بالشعوب وإبقاءها تحت جناح السلطة والحفاظ على ولاءها وتأييدها وإن كان نابعاً عن خوف من البطش والملاحقة.
تحول الإعلام بجميع أشكاله بما فيها المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات معارك تتصارع فيها كل الأطراف، ويبدو أننا نتوجه شيئاً فشيئاً إلى هيمنة الوسائل الأكثر قوة وانتشاراً وبالتالي بث ما يحلو لها من أخبار وتقديم ما تريده من أفكار مدعومة من أصحاب رؤوس الأموال، على غرار ما يجري على الأرض من سيطرة وتحكم الدول العظمى في مصائر غيرها عبر دعمها وتأييدا لمن يخضع لها ويمشي في ركبها.
في ختام كتابه «المتلاعبون بالعقول» يبعث هربرت شيللر شيئاً من الأمل قائلاً: « لقد باشر موجهو العقول لفترة طويلة وبدأب كبير مهمتهم، وأتيحت لهم موارد ضخمة، وحققوا نجاحاً كبيراً، ومع ذلك فإنهم لم يتمكنوا حتى بالنسبة لقسم واحد من السكان من منع تزايد فهمهم، بدرجة أعمق من كل ما اكتسبوه، ويجب أن يكون هذا مشجعاً لقوى التحرر التي لا تزال ضعيفة».