ياسين العطواني
لا يزال مفهوم صراع أو صدام الحضارات يشغل بال الكثيرين من المحللين الستراتيجيين والمهتمين بالشأن الدولي، وبمسألة العلاقات الدولية تحديداً، وخاصةً بعد الأحداث الكبرى، التي شهدها العالم وما أعقب ذلك من تداعيات، وصولاً إلى أحداث غزة. فقد أعادت الحرب على غزة النقاش مجدداً حول طبيعة وماهية هذا الصراع. وفي هذا الشأن تمت استعادة مقولة الباحث الأمريكي صامويل هنتنغتون حول صراع الحضارات، حيث وجدت هذه المقولة صدى لدى بعض الباحثين حول مايجري من أحداث في قطاع غزة، والتأكيد على أن الصراع الحالي هو صراع حضاري ديني بين الشرق والغرب. وهذا ما أشار إليه مؤخراً الكاتب والفيلسوف الفرنسي ميشال أنفراي، والذي عبر عن قناعته بأن الحرب في غزة تؤكد رأي هنتنغتون حول الصراع بين عالم الشرق الإسلامي وعالم الغرب ذات الجذور اليهودية- المسيحية. وقد استشهد بتصريحات وزير الخارجية الأمريكية، الذي اعتبر زيارته إلى إسرائيل في بداية الأحداث مرتبطة بيهوديته كشخص أكثر من بعدها الرسمي مثال على ذلك. وفي الاتجاه نفسه يمكن اعتبار تصريحات بعض المسؤولين في الدول الغربية، إضافة إلى الخطاب الرسمي لمسؤولي الكيان الأسرائيلي دليل على هذا التوجه.
وكان عدد من المفكرين الغربيين، خاصة الأمريكيين منهم، قد طرح فكرة صراع الحضارات أو صدامها بإعتبارها حتميةً تاريخية، ويأتي صامويل هنتنغتون في مقدمة هؤلاء المفكرين، حيث أصدر في عام 1996 كتابه الشهير (صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي)، وكذلك فرانسيس فوكوياما صاحب الكتاب الذي عُرف بنهاية التاريخ. ويعتقد البعض إن ما ذهب اليه هنتنغتون لم يأتِ من فراغ، فقد اعتمد الكثير من النصوص التي جاء بها كتاب صراع الحضارات بناءً على من سبقه من الباحثين، الذين تطرقوا إلى هذا الموضوع من قريب أو بعيد. ويأتي ارنولد توينبي في مقدمة هؤلاء. أما ماذهب اليه هنتغتون في نظريته صدام الحضارات فهو يقول في ذلك، إن شعور الانتماء إلى حضارة معينة، سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل، وسوف يصوغ العالم إلى حدٍ كبير التفاعل بين حضارات ست أو سبع، هي الحضارات التالية، الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الاسلامية، والحضارة الأرثوذكسية، والحضارة اللاتينية ــ الأمريكية، وربما الحضارة الأفريقية. والصراعات المهمة القادمة سوف تقوم على طول الخطوط الثقافية، التي تفصل بين هذه الحضارات. ويرى هنتنغتون أن الفرق بين الحضارات هي فروق أساسية تتلخص في التاريخ واللغة والثقافة والأهم الدين.
فالدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم، وهذه الفروق الثقافية ليست قابلة للتبديل أو الحلول الوسط، ومع تحديد العلاقات المختلطة بمقياس ديني أو اثني فستنشأ تحالفات في صورة متزايدة، تستغل الدين المشترك والهوية الحضارية المشتركة، وبناءً على ذلك سيحدث صدام الحضارات.
وهنا لا بد من التساؤل عن حقيقة هذا الصراع، وطبيعة منطلقاته، والتداعيات المتوقعة لهذا الصراع، حيث يعتقد الكثير من الباحثين إلى أن القول بحتمية صراع الحضارات أو صدامها يُجَافي سنة التاريخ ويتعارض مع طبيعة الحضارة، فالحضارة لا طابع عرقيا لها، وهي لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تُنسب إلى أمة من الأمم، أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلّا، بخلاف الثقافة التي هي رمز للهوية، وعنوان على الذاتية، وتعبير عن الخصوصيات التي تتميز بها أمة من الأمم، أو يتفرد بها شعب من الشعوب. وينطلق أصحاب هذه الرؤية من حقيقة تقول، إن الحضارة هي وعاء لثقافات متنوعة، تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت، فشكّلت خصائص الحضارة التي تعبّر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب
جميعاً.
فالمعروف عن الحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية، تتفاوَت في ما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانب المادي، ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي، ومنها ما يسوده التوازنُ بينهما. فهي إذن سلسلة متعاقبة من الحضارات التي تخلي كلُّ واحدة منها المجال لما سوف يتلوها من حضارة أخرى، ما جعل كثيراً من الباحثين في مجال دراسة الحضارات يذهبون إلى القول بوجود التماثُل والتطابُق بين الكثير من هذه الحضارات والتماثل والتطابق لا يدعان مجالاً للصراع. خلاصة القول، إن صراع الحضارات ليس حتميًا من حتميات التاريخ، كما يعتقد البعض، على اعتبار ان الحضارات لا تتصارع، ولا تتصادم، وإنما تتفاعل و تتلاقَح ويكمل بعضها بعضاً، لأنها خلاصة الفكر البشري، والإبداع
الإنساني.