ورثة مانديلا

آراء 2024/01/16
...

ميادة سفر

كانت دولة جنوب أفريقيا آخر دول الآبار تايد «الفصل العنصري» في قارة أفريقيا، وهي اليوم تقف في وجه أكثر كيان عنصري في التاريخ الحديث «إسرائيل»، عبر الشكوى التي تقدمت بها أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة منذ بدء الحرب الأخيرة في السابع من تشرين الأول من العام الماضي وحتى اليوم.
في أربع وثمانين صفحة فصّل ممثلو جنوب أفريقيا جرائم الاحتلال الإسرائيلي بكل تفاصيله، ووصفوه على حقيقته وبما يستحق، في واحدة من أوائل المواقف الدولية ضد دولة الاحتلال منذ إنشائها على أرض فلسطين عام 1948، في محاولة لإدانتها على ما ارتكبته وترتكبه بحق الشعب الفلسطيني من جرائم إبادة وقتل وتهجير ومذابح وتدمير وقطع المساعدات الإنسانية، في ظل سكوت وتأييد كثير من دول العالم التي تقف مع المحتل ضد صاحب الحق.
قد لا ينتظر الفلسطينيون الكثير من المحكمة الدولية الناظرة في تلك الشكوى، لا سيما أنّ أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للطعن، وغير ملزمة ولا توجد أي وسيلة لتنفيذها أو الإلزام باحترامها، غير أنّ صدور قرار حكم ضد إسرائيل من شأنه أن يشكل سابقة قانونية، وأن يعمق عزلة إسرائيل ويضر بسمعتها الدولية، ويشكل خطوة هامة وغير مسبوقة لكشف الزيف الذي تدعيه إسرائيل والدول المساندة لها في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، ومحاولة لإظهار ولو جزء من حقائق الإجرام الذي تمارسه وإيصالها إلى الرأي العام العالمي، الذي ظل حتى وقت قريب يعتبر شعب إسرائيل شعباً مضطهداً، بسبب ما سمي بالهولوكوست زمن النازية الألمانية، فضلاً عما تحققه تلك المحاكمة من تعزيز التضامن والتأييد للقضية الفلسطينية.
وفي كل مرة يحتل فيها العنف المشهد العام وتسيل الدماء ويعم القتل والعنصرية، يظهر طيف الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا القائد اللاعنفي، الذي ناضل حتى آخر حياته ضد الظلم والتمييز العنصري في بلده، وكان داعياً للسلام ورافضاً للحرب والعنف بكل أشكاله وما يترتب عنه، ذلك القائد الذي استحق عن جدارة جائزة نوبل للسلام، كان ذات يوم مدرجاً على لائحة الإرهاب الأميركية حتى عام 2008، ففي بيئة مشبعة بالاستغلال والاضطهاد والعنصرية وسيطرة الرجل الأبيض المستعمر على مقدرات البلاد ومتحكماً بسكانها، ولد مانديلا عام 1918 وسوف يسلك لاحقاً سبيل المقاومة السلمية ضد المحتل الأجنبي، مستلهماً من أفكار المهاتما غاندي، التي تعتمد على وسائل لاعنفية للاحتجاج الشعبي.
يعيد ورثة مانديلا هذه الأيام إرثه إلى الواجهة العالمية، في مواجهة واحدة من أكثر «الدول» عنصرية وتعسفاً وإجراماً، وهم يقفون في وجه العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ ما قبل الـ 48، لكنها ليست مواجهة عسكرية وإنما قانونية وإنسانية، متكئة على إرث من المبادئ والأخلاق والأعراف الإنسانية التي تعول على وجودها لدى الكثير من شعوب العالم، وعلى قوانين دولية آن الأوان لتفعيلها وتطبيقها في سبيل إحلال الأمن والسلم الدوليين الذين نادت بهما المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة الذي بقيت حتى يومنا هذا أداة بيد الدول
العظمى.