مياه البحار بركانٌ يغلي

آراء 2024/01/23
...

 سناء الوادي 

 تبدلت خلال العقدين السابقين مفاهيم المواجهة بين الخصوم، فلم تعد الحرب البرية قادرة على حسم النزاع وتغليب طرف على آخر، حتى أنه وإبان الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي كان لابد من الاهتمام بالأساطيل البحرية وحاملات الطائرات، فإذا ما اشتد الوطيس انتشرت تلك البحرية القتالية في المضائق وحول الجزر ونقاط الاختناق الفاعلة، ففي ذلك حماية لسلاسل التجارة عبر البحار والخنق الاقتصادي الذي تمارسه القوى الكبرى لفرض مشيئتها وهيمنتها، وحتى وقت ليس ببعيد كانت الولايات المتحدة الأميركية هي الشرطي الحارس لتلك الممرات المائية حول العالم

 وفي سبيل ذلك أنشأت قرابة 750 قاعدة عسكرية خارج حدودها حتى نالت لقب «امبراطورية القواعد» بجدارة فمنها ما تستخدمه لأغراض الردع ومنها ما ينتظر الضوء الأخضر لإطلاق الضربات الهجومية.

هذا وتسمّرت أعين واشنطن خلال تلك العقود على العملاقين الخصمين في الشرق، فأينما كان للصين موطئ قدم جاورتها أميركا ولم تأل جهداً في إعطاب طريق الحرير على امتداده، فتحالفت مع تايوان ووقعت معها اتفاقية ألزمتها بالدفاع عنها بوجه نيران التنين وها هي بين الفينة والأخرى ترسل المدمرات المزودة بالصواريخ إلى الجزر الاصطناعية الصينية في بحر الصين الجنوبي، فتثير التوترات وترسل إشارات القوة والقدرة على السيطرة على البحر في أي وقت تشاء ناهيك عن المحاولات المتكررة بالتهديد بتفجير شبكات الكابلات البحرية المسؤولة عن توصل الانترنت للعالم، إلا أنَ هذا الوضع اختلف مؤخراً مع الدّب الروسي بعد الحرب على أوكرانيا والذي ردَّ على العقوبات الاقتصادية الغربية بقيادة العم سام وتفجير أنابيب الغاز « نورد ستريم 1و 2 « تحت مياه بحر البلطيق، بغلق البحر الأسود ومنع ناقلات الحبوب من تصدير الحبوب الأوكرانية من موانئها فأدخلت أوروبا والعالم في ضائقة غذائية شديدة إلى أن كانت الوساطة التركية لاستئناف التصدير مع التزام منع دخول السفن الأجنبية التابعة لحلف الناتو إلى مياه الأسود وفقاً لاتفاقية «مونيترو» ومع إحكام السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم الاستراتيجية أنهت الطموحات الأمريكية بالتهديد المباشر على أطرافها. 

وفي ظل الغليان الذي تشهده مياه البحار كانت عملية طوفان الأقصى للمقاومة الفلسطينية ليتمدد الغليان إلى مياه البحر الأحمر وخليج عدن والمضائق ذات الأهمية الجيوبوليتيكية الكبيرة، في مسار التجارة العالمية، وتصدرت مجريات مضيق باب المندب عناوين وسائل الإعلام وانتشر الذعر في دول أوروبا وأميركا، فهو الشريان الرئيس لنقل الطاقة والبضائع من الشرق إلى الغرب بأسرع الطرق وأقل التكاليف، بعد أن كانت تتجه شركات الناقلات البحرية إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح أقصى جنوب أفريقيا، وصولاً للشمال مع تزايد عمليات القرصنة عند الخليج

الغيني.

 في بداية الأمر لم يكن من المتوقع أن تنجح حركة الحوثي اليمنية، والتي تعتبر من أذرع المقاومة في المنطقة من إخضاع واشنطن لمشيئتها في منع وصول الناقلات المتجهة للكيان المحتل، حتى يتم الرضوخ لمطلبها في وقف الإبادة الجماعية لأهل قطاع غزة، فها هي تضرب سفينة أمريكية وأخرى بريطانية وتخطف غيرها حتى جعلت بلاد الأنكلوساكسون تشتاط غضباً وشركات التأمين ترفع أسعارها أربعة أضعاف، ووضعت مسار الإمداد التجاري في خطر محدق، إذا ما تصاعدت المواجهات لحرب شاملة وهذا ما جعل دولاً عديدة ترفض الانضمام للتحالف، الذي دعت إليه واشنطن لحماية الازدهار في البحر الأحمر، وفي حين تنفيذ هجمات أمريكية _ بريطانية على منصات إطلاق الصواريخ الحوثية، عاد الحوثيون وهاجموا السفن بمسيّرات بحرية وفي ذلك إشارة كبيرة لتطور قوتهم وتعزيزاً لموقفهم، ومن جهة أخرى أظهر ذلك هشاشة الموقف الغربي بالتحكم في نقاط الاختناق في منطقة الشرق الأوسط،خاصة بعد تلويح الجانب الإيراني بغلق مضيق هرمز إذا ما وصلت الأمور 

لذلك. 

وفي هذا صفعة قوية على وجه واشنطن وجميع الدول التي سعت ملياً لامتلاك قواعد على البحر الأحمر في الدول الإفريقية، والتي كانت تظن أن ذلك سيجعلها شريكة في تقرير مصير البحر الأحمر وجعله منطقة رخوة تتجاذبها أطراف السياسة.

ومن ذلك فإنَّه من فضائل حرب غزة إثبات الوجود العربي وتمكينه على البحار المحيطة، وصولاً للمحيط الهندي، وكشفت جلياً ميزان القوى البحرية في الثالوث البحري موطئ الأطماع على مرِّ الأيام فمن يمسك بزمام أمره سيمتلك القوة والسيطرة والقرار لامحالة، ناهيك عن إسقاط سمعة إسرائيل وحلفائها بالقدرة على التحكم بسلاسل التجارة العالمية، وأنهت مفهوماً دام لسنوات هو مفهوم « العقوبات والحصار}. 

 كاتبة سورية