القاضي ناصر عمران
يقوم القضاء بدور محوري في التنظيم العام للمجتمع، وعلى قدر ما يؤديه هذا الدور من فعالية تستقر الحياة وتنخفض إلى درجة كببره مظاهر الاحتقان الاجتماعي، كيف لا، واستقلال القضاء مدخلٌ حقيقي للانتقال نحو الديمقراطية، هذا الانتقال الذي يقتضي وجود معالجات داخلية حقيقية للبنية التنظيمية في مؤسسات الدولة كافة، بشكل يتماهى مع حالة الانتقال من الأنظمة الديكتاتورية الاستبدادية إلى النظام الديمقراطي، والتي لا يمكن لها أن تحقق إنتاجيتها، إلا في ظل سيادة القانون ووجود فضاء ديمقراطي رحب قائم على مبدأ الشفافية والانتقال السلمي للسلطة وحماية الحقوق والحريات.
إن العلاقة بين استقلال القضاء والنظام الديمقراطي هي علاقة جدلية قائمة على ممهدات متبادلة بين الطرفين، تصل إلى التلازم في كثير من الأحيان، فالبيئة المجتمعية مُحددٌ مهم في العلاقة بينهما، وكلما وجدت بيئة اجتماعية حريصة على تطبيق القانون وإنفاذه مع ثقافة قانونية تؤمن بالقانون كعقيدة أكثر منه التزاما، حينئذ نكون أمام بيئة مناسبة وضرورية لبناء مؤسسات دستورية تنتمي للنظام الديمقراطي، يشكل القضاء فيها دعامة أساسية لحمايته، فالديمقراطية تظل بحاجة إلى قضاء مستقل ينهض بمسؤولياته عند نظر مختلف القضايا التي تعرض عليه، وبنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية بعيدا عن تدخل السلطات الاخرى.
إن منح القضاء القوة المتاحة للسلطتين التشريعية والتنفيذية تجعله يحتكر اختصاصه على مستوى طبيعة السلطة القضائية واختصاصاتها مع توافر الشروط اللازمة لممارستها في فضاء من الحياد
والمسؤولية.
فقد أكدت العديد من المواثيق الدولية على أهمية استقلال القضاء في تحقيق العدالة وطالبت الدول باحترام هذا المبدأ وتضمينه في دساتيرها وقوانينها الداخلية، ولعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان صريحا وواضحا في الربط العضوي بين حقوق الإنسان واستقلالية القضاء، حيث نصت المادة (10) منه على الاتي: ( لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة، نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية نوجه اليه ) أما عن الضمانات فقد كانت لجنة حقوق الانسان واضحة في مؤتمر (سانتياغو) عام 1963 بالنص في مقرراتها على استقلالية القضاء، باعتبارها ضمانة اساسية لحقوق الانسان فقد نصت على أن: ( وجود قضاء مستقل يُعد أفضل الضمانات للحريات الشخصية، وأنه يتعين وجود نصوص دستورية أو قانونية تُرصد لتأمين استقلال السلطة القضائية من الضغوط السياسية وتأثير سلطات الدولة الأخرى عليها، وذلك بالحيلولة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبين ممارسة أية وظيفة قضائية أو التدخل في اجراءات القضاء) وعلى الوتيرة ذاتها جاءت نصوص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966 في المادة (14) منه التي أكدت على أن ( الناس جميعاً سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أي دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون)، وبعد سنوات طويلة من التأكيدات الدولية استطاع العراق بعد أن نفض عنه مراحل غبار التسلط والدكتاتورية أن يقوم بالاستفتاء على دستور دائم للبلاد كمحطة أولية للانتقال إلى النظام الديمقراطي كان من نتاجاته إقرار استقلالية السلطة القضائية واعتبارها سلطة مستقلة، تعمل وفق مبدأ الفصل بين السلطات والذي يعني أن السلطة القضائية سلطة اتحادية تعمل على قدم المساواة بينها وبين السلطتين التشريعية والتنفيذية وهو ما أكدته المادة (47) من الدستور، ولم يكتف المشرّع الدستوري بذلك، بل افرد لتنظيم السلطة القضائية الفصل الثالث منه والذي جاء تحت عنوان : (السلطة القضائية ) حيث نظم خلالها هيكلية السلطة القضائية بمكوناتها واختصاصاتها في المواد (87 - 101 )، وبالرغم من ذلك فان استقلال القضاء ظل بحاجة إلى قانون ينظم عمل هيكليته ويحقق استقلاليته وتحقق الاستقلال الكلي للقضاء بعد صدور قانون مجلس القضاء الأعلى رقم (45) لسنة 2017 والذي اعتبر مجلس القضاء الأعلى تاريخ صدوره في 23/1 من كل عام يوما للقضاء.
إن استقلالية القضاء في العراق وان منحتها المواثيق الدولية والنصوص الدستورية مظلة وسقفاً قانونيا، إلا أن فاعليتها ووجودها العملي تحققا من خلال جهود جبارة لرجال القضاء، الذين كانوا في معتركين مهمين، هما التحديات الواقعية المتعلقة بالتحدي الوجودي للنظام الديمقراطي والتي حاولت القوى المعادية بشتى الطرق والوسائل إجهاض هذه التجربة الفتية واللجوء إلى الأعمال العدائية ومنها الأعمال الإرهابية، والتي قدم خلالها العراق الكثير من التضحيات الجِسام، وكان للقضاء نصيب من هذه التضحيات حيث قدم عدد من الشهداء (قضاة وموظفين من منتسبي السلطة القضائية) في سبيل الحق والعدالة والمعترك الآخر هو الواقع العملي للعمل القضائي فقد كانت استقلالية القضاء بحاجة إلى بنى تحتية، وامكانيات مادية وبشرية إضافة إلى تركة من التشريعات والقوانين، والتي لما يزل جزء منها يعتبر القضاء عملاً من أعمال السلطة التنفيذية.
لقد خطى القضاء خطوات مهمة جعلته فاعلا ومؤسسا للنظام الديمقراطي في العراق، وهو الآن يستند على دعامة صلدة هي ثقة المواطن العراقي، الذي يرى في القضاء الحصن الحصين له، وأن العدالة لا يمكن العمل على تنظيمها وتحقيقها، إلا من خلال قضاء مستقل عادل يؤمن بها لكي يستطيع بعد ذلك أن يمنحها للآخرين ، واليوم يقف القضاة العراقيون وكلهم اعتزاز وثقة بالمتحقق من عملهم وكلهم امل بالقادم يحدوهم طموح لا حدود له، بأن يكونوا على الدوام ثقة المواطن وملاذه الدائم وأن تكون تجربتهم نموذجا يحتذى به مقارنة بالدول العربية والاقليمية، وليس السبق ببعيد عنهم فهم يقفون على أرض الحرف الأول والقانون الأول، والشعب القانوني الأول الذي يقف مع القضاء في استقلاليته وتحقيق العدالة .